يعتقد المسلمون بأن محمدًا بُعث للناس كافة، فقد قال عن نفسه: «أنا رسول من أدركتُ حيًا، ومن يولد بعدي»،[138] فبعد نزول آيات سورة المدثر،[139] بدأ يدعو إلى الإسلام الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فكان أول الناس إيمانًا به زوجته خديجة بنت خويلد[140]، ثمّ ابن عمّه علي بن أبي طالب[141] وكان صبيًا يعيش في كفالة محمد معاونةً لأبي طالب،[142] وهو يومئذٍ ابن عشر سنين[143][144]، وقيل ثمان سنين، وقيل اثنتى عشرة، وقيل خمس عشرة.[145] وكان يخفي إيمانه خوفًا من أبيه، حتى لقيه أبوه فقال: أسلمت؟ قال: نعم، قال: "آزر ابن عمك وانصره".[146] ثم أسلم زيد بن حارثة مولى محمد، فكان أول ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب،[137] وفي رواية الزهري أن زيد بن حارثة كان أول الرجال إسلامًا.[142] ثم أسلم صديقه أبو بكر بن أبي قحافة،[137] وقيل بل أسلم قبل علي بن أبي طالب،[147] قال أبو حنيفة: «بل هو أول من أسلم من الرجال، وعليًا أول من أسلم من الصبيان».[148][149] ولما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه فكان أول من أظهر الإسلام[146] وجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص.[139][147] ويُروى أنّ أبا بكر رأى رؤيا قبل ذلك وذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم رآه قد تفرّق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فقصّها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن «النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه وتكون أسعد الناس به».[144]
الشهادتان التي كان يدعو لهما النبي محمد
وكان محمد في بداية أمره يدعو إلى الإسلام مستخفيًا حذرًا من قريش لمدة ثلاث سنين.[150] وكان من أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، وكانت الصلاة ركعتين بالصباح وركعتين بالعشيّ،[144] فكان محمد وأصحابه إذا حضرت الصّلاة ذهبوا في الشِّعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم.[99] وكان المسلمون الأوائل يلتقون بمحمد سرًا، ولما بلغوا ثلاثين رجلاً وامرأةً، اختار لهم محمد دار "الأرقم بن أبي الأرقم" ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم.[150] وبقوا كذلك لحين ما بلغوا ما يقارب أربعين رجلاً وامرأةً، فنزل الوحي يكلف الرسول بإعلان الدعوة والجهر بها.[151]
[عدل] الجهر بالدعوة (10 ق هـ)
جبل الصَّفا من داخل المسجد الحرام في مكة، والذي جهر عنده محمد لأول مرّة بدعوته
بعد مرور ثلاث سنوات من الدعوة إلى الإسلام سرًا، بدأ محمد بالدعوة جهرًا بعدما تلقّى أمرًا من الله بإظهار دينه، يروي ابن عباس فيقول:[152]
محمد لمّا أنزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصّفا فقال: يا معشر قريش! فقالت قريش: محمد على الصّفا يهتف فأقبِلوا واجتمِعوا. فقالوا: مالك يا محمد؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متَّهم، وما جربنا عليك كذبًا قطّ. قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ، يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بيني زهرة! حتى عدد الأفخاذ من قريش إن الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبًا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله. قال: يقول أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾
محمد
وفي رواية عند أحمد بن حنبل وغيره أنه: «لما نزلت ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابته، فاجتمع له ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: "من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ قال علي: أنا».[153][154][155]
وبحسب رواية عن الزهري فإن قريشًا لم تعادي محمدًا ودعوتَه إلا بعد أن نزلت آيات في ذم الأصنام وعبادتها،[152] في حين يتمسك مفسرو القرآن وأغلب كتاب السيرة بأن المعارضة تزامنت مع بدء الدعوة الجهرية للإسلام.[156] فاشتدت قريش في معاداتها لمحمد وأصحابه، وتصدّوا لمن يدخل في الإسلام بالتعذيب والضرب والجلد والكيّ، حتى مات منهم من مات تحت التعذيب، وعمي من عمي،[150] قال ابن مسعود «أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمنعهما قومهما، وأما الآخرون فألبسوا أدرع الحديد ثم صهروا في الشمس وجاء أبو جهل إلى سمية فطعنها بحربة فقتلها».[157] حتى محمدًا قد ناله نصيب من عداوة قريش، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم﴾»[158]. وكان من أشدّهم معاداة لمحمد وأصحابه أبو جهل، وعمّه أبو لهب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدي، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط،[152] حتى دعا على بعضهم قائلاً: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد».[159]
سلكت قريش طريق المفاوضات لثني محمد عن دعوته، فأرسلت عتبة بن ربيعة أحد ساداتهم يفاوضه فلما سمع القرآن عاد لقريش وقال: «أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه بنبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم». ثم حاولوا مرات كثيرة بعرض المال عليه والزعامة والزواج، لكن محمدًا كان يرفض في كل مرة.[150] ولما كان محمد في منعة وحصانة عمّه أبي طالب، منعهم ذلك من أذيته بشكل مباشر، فأرسلوا وفدًا لعمّه يعاتبونه فردّهم أبو طالب بقول لطيف، ثم مشوا إليه مرّة أخرة بعد أن استمر محمد بدعوته،[160] وقالوا له: «ياأبا طالب، إنّ لك سنًا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين»، ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، يروي ابن اسحق[161][162]:
محمد أن قريشًا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا كذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بَدَا لعمّه فيه، وأنه خاذله ومُسْلمة، وضعف عن القيام معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمّ، لو وُضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه»؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى. فلما ولَّى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: إمضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
محمد
[عدل] الهجرة إلى الحبشة (8 ق هـ)
Crystal Clear app kdict.png طالع أيضا :قصة الغرانيق
موقع مملكة الحبشة، وجهة أصحاب محمد للهجرة هربًا من الاضطهاد
لما اشتد البلاء على المسلمين أخبرهم النبي محمد أن الله أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة وملكها يومئذٍ أصحمة النجاشي، قائلاً لهم: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، وكان وقوع ذلك مرتين، فذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من البعثة (8 ق هـ)[163] خرج أحد عشر رجلاً وأربعة نسوة،[معلومة 1] وقيل وامرأتان، وقيل كانوا اثني عشر رجلاً وخمسة نسوة[164] وقيل عشرة،[165] وكان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل، خرجوا إلى البحر وقصدوا "ميناء شعيبة"، وكانت هناك سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة،[166] فكانت أول هجرة في الإسلام، وكان على رأسهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت محمد.[167]
موضع السجود في آخر سورة النجم والذي سجد عند تلاوته كل من سمعه من النبي محمد
وفي أعقاب الهجرة إلى الحبشة، وتحديدًا في شهر رمضان، خرج النبي محمد إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك قد سمعوا القرآن من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضًا، من قولهم: ﴿لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾،[166] حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة آية: ﴿فاسجدوا لله واعبدوا﴾ ثم سجد، فسجد معه كل من كان حاضرًا من قريش،[168] إلا شيخ أخذ كفًا من حصى فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا،[169] فشاع أن قريشًا قد أسلمت.[163] وقد ذهبت روايات عند بعض المفسرين والمؤرخين أن الشيطان ألقى على لسان محمد في قراءته في صلاته عبارة (تلك الغرانيق العُلا، وإن شفاعتهن لتُرتَجى)، بعد أن تمنى أن ينزل الله عليه ما يقرب بينه وبين قومه، وفي روايات أخرى أن العبارة قالها الشيطان وسمعتها قريش فسجدت قريش لذلك.[163] بينما رفض هذه الروايات التي فيها ذكر الغرانيق[معلومة 2] أغلب علماء المسلمين ممن يعتنون بتصحيح الأخبار والروايات، مثل ابن حزم وابن حجر وابن كثير والقاضي عياض واعتبروها قصة مكذوبة من وضع الزنادقة،[170][171][172] وأنه يستحيل وقوعها لإجماع الأمة الإسلامية على عصمة النبي محمد من الشيطان[173][174] وقد ذكر آخرون سببا آخر لسجود المشركين غير قصة الغرانيق مثل الآلوسي الذي قال إن سجودهم لم يكن لمدح آلهتهم ولكن لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة وهي فيها ذكر كيف أخذ الله الأقوام السابقة لتكذيبهم أنبياءهم مثل قوم عاد وثمود ونوح ومن شدة الآيات وخوفهم استشعروا أن يحدث ذلك معهم، فلما رأوا المسلمين يسجدون ظنّوا أن الهلاك سيحل بهم فسجدوا خوفًا من ذلك.[175]
وبعد ما بلغ المسلمون في الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا، رجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أُخبروا به صحيحًا، فلم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش،[166] ثم رجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية،[163] فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً.[167] ولما رأت قريش أن أصحاب محمد قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، قرروا أن يبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص محمّلين بالهدايا للنجاشي ملك الحبشة وبطارقته علّه يخرج المسلمين من دياره، فدعى النجاشي المسلمين، وقام جعفر بن ابي طالب مدافعًا عن المسلمين، فقرأ على النجاشي بعضًا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكادون - يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه».[176][177] وقد هاجر معظم الذين هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة المنورة، بعد أن استقر الإسلام فيها، وتأخر جعفر ومن معه إلى فتح خيبر سنة 7 هـ