الجيش
المدقة أحد الأسلحة التي كانت مستعملة في العصر العباسي في دكّ أسوار القلاع والحصون.
الجيش العباسي كان جيشًا دائمًا مستقرًا، يقيم أغلب جنده في بغداد إلى جانب الخليفة مع وجود جيوش منفصلة في الولايات، ومن ثم للدول التي نشأت في كنف الدولة العباسية. كان الجيش خلال عهد القوة يأتمر بأمر الخليفة ثم بات خلال عهود الضعف يتحرك بأمر الولاة والسلاطين.[89] لم يكن هناك عسكرية إجبارية في الدولة العباسية، غير أن كل ذكر قادر على حمل السلاح يجب عليه الانضمام للجيش عند إعلان الجهاد بما يشبه النفير العام في حالات الحرب؛ والجيش العباسي هو بالمقام الأول جيش عقائدي يقوم على المفاهيم والشرائع الإسلامية والتي أبرزها نشر الإسلام وحماية الخلافة.
كان ينفق على الجيش من خزينة الدولة مباشرة، ولما زاد عدد الجند إلى درجة أثرت على الأسعار والاستقرار المعيشي في بغداد اضطر الخليفة نقل عاصمة الدولة إلى سامراء مسكنًا كتائب جيشه فيها.[90] وفي عهود الضعف اللاحقة لعب الجيش الدور البارز في إدارة دفة الحكم وشكل قادة الجيش جزءًا أساسيًا من الطبقة الحاكمة،[91] بل إن مهمة الجهاد والدفاع عن حدود الدولة تركت لجيوش سلاطين الولايات أغلب الأحيان، في حين اهتمّ جيش الخلافة في بغداد بالحروب الداخلية وتعيين الخلفاء والسلاطين وعزلهم. على أن جيش بغداد قد تبع دومًا لإمرة السلطان مع وجود فصيل مستقل يدعى "حرس الخلافة" ويلقب قائده "بمؤتمن الخلافة" يتبع القصر مباشرة. وعمومًا فإن جيوش الولايات كانت أكبر وأقوى من جيش بغداد وحققت إنجازات أعمق كجيشي الدولة الزنكية والدولة الأيوبية.[92]
أما أسلحة الجيش فقد كانت بالنسبة للجندي تقليدية ممثلة بالسيوف والدروع والهروات، وتمتع الجيش بأسلحة أخرى متطورة بمقاييس عصرها كالمنجنيق والمدقة والدبابة القديمة،[93] غير أنه في عصور انحطاط المماليك كان الجيش من ناحية الأسلحة متخلفًا ولم يدخله البارود والسلاح الناري مطلقًا ما سهل سيطرة العثمانيين على البلاد بين عامي 1516 و1517.
فكرة الإنكشارية التي ترعرعت وازدهرت لاحقًا خلال عهد الدولة العثمانية وظلت جيشها الرسمي حتى عهد السلطان محمود الثاني، إنما تأسست في كنف الدولة العباسية، ومنذ فترة مبكرة خلال خلافة المأمون؛ بيد أن أضخم تطبيق لها كان خلال أواخر أيام الدولة الأيوبية. تقوم فكرة الإنكشارية على شراء عبيد صغار في السن أو أسرهم خلال الحروب ومنحهم في معسكرات خاصة منذ نعومة أظفارهم تربية عسكرية وتدريبًا على حمل السلاح، وتلقينهم العقيدة الإسلامية وحماية الخليفة أو السلطان،[94] وقد دعي هؤلاء في العصر الأيوبي بالمماليك، واستطاعوا الانقلاب على الأيوبيين أنفسهم وتأسيس سلطنتهم الخاصة؛ أما من ناحية المعارك فعوّل السلاطين عليهم في تحقيق النصر، سواءً في الدولة العباسية حين قضوا على إمارة طرابلس وإمارة أنطاكية التابعتين للصليبيين وصدّوا هجمات المغول وقد اشتهر عن المماليك القوّة في الحرب، أو في الدولة العثمانية حين فتح السلاطين أغلب أمصارها بواسطتهم، غير أن طلباتهم المتكررة دفعت الدولة للتخلص منهم خلال سلطنة محمود الثاني في القرن التاسع عشر.[94]
[عدل] الدين
[عدل] الإسلام
إحدى مآذن الجامع الأزهر، أسسه الفاطميون كمدرسة للطائفة الإسماعيلية وحوله صلاح الدين الأيوبي إلى مدرسة للسنة بعد توليه مصر عام 1171، ويعتبر من أهم المراجع الدينية حتى اليوم.
بسملة مزخرفة بشكل إجاصة ترقى لمنتصف القرن الرابع عشر، أي زمن الخلافة العباسية في القاهرة.
يعتبر الدين الإسلامي أحد المقومات الرئيسية التي قامت عليها الدولة العباسية، وقد شهد هذا الدين في كنفها تطورًا كبيرًا كان له الأثر السلبي في بعض الأحيان وأثر إيجابي في أحيان أخرى. فإن انتشار الإسلام بين الشعوب غير المسلمة وفهم هذه الأخيرة للإسلام بطريقتها الخاصة المتأثرة بفلسفاتها ومعتقداتها القديمة، فضلاً عن الاجتهادات الخاصة لبعض الفقهاء، أدى إلى نشوء طوائف ومذاهب عديدة داخل المؤسسة الإسلامية نفسها، بعضها اندثر والبعض الآخر لا يزال حتى اليوم.[95] من الطوائف الإسلامية التي نشأت خلال العهد العباسي المعتزلة والمرجئة والإباضية وغيرهم، كما نشأت عن الطائفة الشيعية عدة طوائف نتيجة اختلافات فقهية أو اختلاف حول وراثة منصب الإمام الشيعي فنشأت بذلك الطائفة الإسماعيلية والعلوية والدرزية.[96] أيضًا فإن بدايات الصوفية نشأت في العصر العباسي وترعرعت فيه مدارسها وتقنياتها المختلفة وصيغت أدبياتها.[97] ولم تكن العلاقة جيدة بين مختلف الطوائف، رغم أن الباحثين يسوقون قيامها إلى الغنى الثقافي والتنوع الحضاري، إذ قامت العديد من الفتن والاقتتالات الطائفية بين مختلف الطوائف وبشكل متواتر طوال تاريخ الدولة ما أثر على وحدتها وولاء مواطنيها.
من أبرز تأثيرات العصر العباسي أيضًا، ظهور وتطور المذاهب والمدارس الفقهية التي حصرت بأربع مدارس كبرى هي الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية، وكانت هذه المدارس شكلاً من أشكال التنوّع في تفسير العقيدة.[98] وغالبًا ما كان الخلفاء يحيطون أنفسهم بقضاة من المذاهب الأربعة كذلك الحال في الجامعات الكبرى المعنية بالشريعة كالجامعة المستنصرية. وتميّز العهد العباسي أيضًا بالاهتمام بجمع الحديث النبوي وغربلته بقصد التحقق من مدى دقته وصلته بالنبي محمد، وإن أشهر جامعي الجديث قد برزوا خلال العصر العباسي كالبخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم، مما لا يزال فقهاء الإسلام يعتمدون عليهم إلى اليوم، ما يدلّ على التأثير العميق للعصر العباسي في العلوم الشرعية والفقهية.[99] ونشأت عدة مدراس تختصّ بعلوم الحديث أشهر هذه المدارس مدرسة المدينة المنورة ومدرسة أهل الرأي في العراق، وظهر علم "قراءات القرآن" في العصر العباسي، منعًا لاختلاف القراءات بحكم تعدد اللهجات، واختير في سبيل ذلك سبعة قرّاء اشتهروا بعلمهم وفضلهم.[100] بل إن العباسيين حتى في الأزمنة التي كفوا فيها عن رعاية العلوم والفنون لم يكفوا قط عن رعاية المدارس الفقهية وتمويلها، وانطلاقًا من هنا فإن الغزو المغولي الذي دمر المدن الكبرى وأتلف محتويات المساجد والمكتبات في بغداد وحلب ودمشق ترك المسلمين في حال تصفها المستشرقة كارين آرمسترونغ باليتم، ففقهاء العصر المملوكي لم يكونوا مهتمين بتطوير الفتاوي والاجتهادات الفقهية بقدر ما كانوا مهتمين بإعادة تجميع ما قد ضاع وفقد منها.[101]
رجل دين درزي، إحدى الطوائف التي نشأت في كنف الدولة العباسية.
على مستوى الطائفة الشيعية، فإن العصر العباسي يعتبر حاسمًا في تكوين معالم هذه الطائفة كما تبدو اليوم. إذ إن الدعوة العباسية وإن قامت على تقارب مع الشيعة إلا أنها سرعان ما انقلبت عليهم،[102] ورغم أن العباسيين قد حفظوا الإمامة الشيعية قائمة كما تم الاتفاق بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان إلا أنّ أغلب الأئمة الشيعة إما اغتيلوا أو سمموا من قبل الخلفاء،[103] وعلى الرغم من أن الإمام السادس جعفر الصادق قد حرّم التدخل في شؤون الدولة على الشيعة إلا أن العلاقة قد ظلت متوترة.[103] الإمام الثاني عشر محمد المهدي اختفى خلال خلافة المتوكل على الله بظروف غامضة، ويعتقد الشيعة حتى اليوم أن الإمام هو في حالة غيبة بسبب استشراء الظلم والفساد في المجتمع وأنه سيعود قبل موعد يوم القيامة ليقيم الحكم الإسلامي العادل.[104][105] في الحقيقة إن عقيدة غيبة الإمام التي ظهرت في العصر العباسي ستشكل إحدى الركائز الأساسية للطائفة الشيعية ومعتقداتها.[106]
الجدالات الدينية الإسلامية الفلسفية كانت إحدى سمات العصر العباسي خصوصًا في عهود القوة. أبرز هذه الجدالات الدينية الجدل الذي حصل حول أزلية القرآن أو خلقه، إذ قالت المعتزلة والإباضية بخلق القرآن ودعمهم الخليفة المأمون، في حين قالت الأشاعرة والسنة بأزلية القرآن. الجدل الدائر لم يحسم بعد، إذ إن بعض الفرق لا تزال تقول بخلق القرآن استنادًا إلى عدد من آيات القرآن ذاته منها: قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ.[107][108] في حين أن أغلب المسلمين يرفضون ذلك استنادًا إلى كون القرآن بوصفه كلام الله جزءًا لا يتجزأ عنه، وإن جعل القرآن مخلوقًا يؤثر على حال الألوهية غير القابلة للتبديل.[109] لطالما قارن المؤرخون وعلماء الدين المقارن بين هذا الجدال والجدال المسيحي في القرن الرابع حول خلق المسيح أو أزليته، وقد عقد مجمع نيقية عام 325 للفصل به وانتهى للقول بأزلية المسيح تمامًا كالقول بأزلية القرآن، بوصف كليهما في دينهما "كلمة الله".[110] الجدال الثاني كان منبعه تضارب التفسير لآية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.[111] حيث ذهب البعض للقول بالتفسير الرمزي للآية وتمسك البعض بوجود عرش الله، وأغلب المسلمين من سنة وشيعة اليوم يقرون بالتفسير الرمزي أو التأويل لهذه الآية دونما تفسيرها حرفيًا.[112][113] هناك قضايا أخرى كانت محط جدال في العصر العباسي كالجدال حول رؤية الله في يوم القيامة أو نفيه والجدل المتعلق حول جنس الملائكة والجدل المتعلق بالجبر والاختيار، وغيرهم من القضايا.
ومع كون الإسلام هو دين الدولة، غير أنه لا يمكن تحديد مذهب من مذاهبه أو طوائفه دينًا رسميًا. فخلال خمسة قرون من عمر الخلافة في بغداد، كان دين الدولة يتأثر بطائفة الخليفة، فالمأمون والمعتصم والواثق أعلنوا الاعتزال عقيدة الدولة،[114] وقام المتوكل بتعيين الشافعية مذهبًا رسميًا، أما المستعصم بالله فكان يميل نحو الشيعة وكذلك الخلفاء الذين تعاقبوا خلال الدولة البويهية،[115] على عكس الخلفاء الذين تعاقبوا خلال الدولة السلجوقية ومالوا نحو السنة.
[عدل] الأديان الأخرى
يهود عراقيون أمام ضريح النبي حزقيال عام 1932: بلغ عدد يهود بغداد عام 1170 أربعين ألفًا.
خلال عصر القوة والازدهار العباسي كانت العلاقة بين الدولة ومواطنيها غير المسلمين تصنف على أنها في أحسن الأوضاع خصوصًا خلال خلافتي المنصور والرشيد، وقد جاء في «المنتجب العاني» لمؤلفه أسعد علي أن الخلفاء كانوا يحتلفون بالأعياد المسيحية كعيد الميلاد وأحد الشعانين حتى في قصر الخليفة، فيضع الخليفة وحاشيته أكللة من زيتون ويرتدون الملابس الفاخرة، وقد بنيت في بغداد كاتدرائيتان مع تشييد المدينة.[116] ولعلّ أبرز الدلائل والشواهد عن التعايش الديني والعيش المشترك أشعار أبي زيد الطائي والأخطل التغلبي كذلك ما رواه ابن فضل العمري بكتابه «مسالك الأبصار» وما جاء في كتاب «مسالك الممالك» من وصف للحياة بين المسلمين والمسيحيين في البلاد التي زارها، وقد نقل في كتابه ذاته أنه الرها العباسية وجوارها كان هناك ثلاثمائة دير.[117] كذلك فإن كتابات المؤرخين السريان كالتلمحري وميخائيل الكبير وغيرهما تدلّ عل ذلك، ومراسلات طيموتاوس بطريرك النساطرة الذي جمعته صداقة مع أبي جعفر المنصور حتى لقبه «أبي النصارى»، ويذكر أيضًا عددًا من الخلفاء والأمراء والولاة كانوا يقيمون خلال تنقلاتهم في الأديرة وقد سجلت أديرة الرصافة ودير زكا ودير القائم قرب البوكمال زيارات لخلفاء عباسيين.[118] كما أنّ العباسيين لم يجبروا القبائل المسيحية العربية كتغلب ونمر وطيء وبني شيبان وقبيلة إياد على الإسلام، وإنما الأسلمة جاءت في القرون اللاحقة التي شهدت اضطهاد الأقليات خصوصًا القرن العاشر.[119]
أما اليهود فعوملوا كالمسيحيين، ارتقى بعضهم مناصب مرموقة في الدولة، وأصبح حاخام بغداد رأسًا للطائفة اليهودية في العالم بسبب التسامح والرعاية،[120] وبنى الخليفة المعتضد لليهود مدرسة تلمودية في بغداد. وفي عهد الخليفة المستنجد عام 1170 قدر عدد اليهود في بغداد وحدها بأربعين ألفًا، اشتهروا خلالها بالنشاطات الاقتصادية من تجارة وصيرفة على وجه الخصوص.[120]
صورة للصفحتين الأولتين من "المخطوط الفاتيكاني عددد 250"، وهو عبارة عن ترجمة عربية لإنجيل الدياسطرون، ويرقى للعصر العباسي.
كذلك حال الصابئة الذين اعتبروا في الفقه الإسلامي من أهل الكتاب، وانتشروا في الأحواز وجنوب العراق وكانت مدينتي واسط وميسان عواصم لهم، وقد نقل وجود أربعمئة مشكينا في ميسان أوائل العصر العباسي، واشتهر منهم عدد من القضاة ورجال العلم والأدب.[121]
لم يقتصر الأمر على ذلك بل إن حران وجوارها كانت مركزًا وثنيًا كبيرًا تعبد فيها الكواكب والأفلاك، وقد تسامح الخلفاء الأمويون ومن بعدهم العباسيون مع وثنية أهل حران إلى عهد المأمون. إذ إن المأمون مرّ بحران عام 830 فاغتاظ من الوثنية وطلب من أهلها التحول إلى الإسلام أو إحدى الديانات التي يعترف الإسلام بها، فدخل الحرانيون بالصابئة غير أنهم ظلوا وثنيين ومن هنا يمكن التمييز بين طائفتي صابئة، الصابئة المندائيون في جنوب العراق والصابئة الحرانيون الوثنيون، ويمكن القول أن الحرانيين لم يقوموا سوى بتغيير شكلي.[122] ظلت حران على هذه الحال إلى أن دمرها تيمورلنك في القرن الرابع عشر ويذكر أبو الفداء أنها قد تحولت إلى كومة خراب وانقرض دين معتنقيها بعد غزوه هذا.[123] وعلى الرغم من هذا، فيجب الإشارة إلى أن أتباع الأديان غير الإسلامية حتى خلال هذه المرحلة، لم تكن مساواتهم بسائر الرعايا من المسلمين كاملة، فيما يخصّ الزواج أو الميراث أو إنشاء دور العبادة في بعض المراحل.[124]
القسم الأكبر من هذا التعايش تبخر خلال عصور الانحطاط، فهدمت الكنائس ومنع أبناء هذه الأديان من ركوب الخيل ومزاولة بعض الأنشطة التجارية والاقتصادية أو الإقامة في دور مرتفعة، كما أنهم قد عوملوا كرعايا من الدرجة الثانية وأخذ السلاطين والولاة يستبدون بهم وكان البدو يقتحمون الكنائس والأديرة لسلبها على ما يذكر المؤرخ ابن بطريق والمسعودي وغيرهما. كانت إحدى نتائج ذلك، هجرة المسيحيين الذين رفضوا اعتناق الإسلام من المدن نحو الجبال، وهكذا أخذ الموارنة بالنزوح من وادي العاصي باتجاه جبال لبنان العصيّة، وكذلك سجلت حركات هجرة مسيحية نحو طور عابدين وماردين وغيرها من الأماكن المنعزلة.[125] عمومًا لا يمكن أن يفهم أن الاضطهادات كانت مستمرة، إذ كانت تخف وتيرتها بين الفنية والأخرى؛ وقد شملت جميع الأقليات الدينية وفي بعض الأحيان حتى الإسلامية منها. يذكر أنه عندما دخل هولاكو بغداد أمر بعدم التعرض للمسيحيين لكون زوجته مسيحية ومن أتباع كنيسة المشرق الآشورية، وأمر ببناء كاتدرائية في بغداد.[126]
[عدل] الثقافة
[عدل] الشعر
تمثال لأبي النواس (762 -813م / 145 -199هـ) في العاصمة العراقية بغداد.
يعتبر الشعر في العصر العباسي ثالث حلقات الشعر العربي القديم وأكملها. الحلقة الأولى كانت الشعر الجاهلي والثانية كانت صدر الإسلام والعهد الأموي، لتكون الحلقة الثالثة العصر العباسي، حيث بلغ الشعر مبلغًا عاليًا بدعم الخلفاء والأمراء وتحسن أحوال المعيشة. وتخرّج في هذا العصر أبلغ شعراء العربية وأفصحهم ومنهم لا تزال أشعاره تتداول حتى اليوم.[127] ولم يكن تطور الشعر في العصر العباسي تطورًا في مادته أيضًا بل في علومه أيضًا، إذ قد جمع الخليل بن أحمد الفراهيدي أوزان الشعر في خمسة عشر بحرًا ثم أضاف إليها الأخفش بحرًا واحدًا فظهر بذلك علم العروض بجهود العباسيين.[128] وإن أبرز ما يميز الشعر العباسي تنوّع المواضيع التي طرحها، والتي شملت جميع أطياف المجتمع ومواضيعه، بل إن هذه المواضيع يمكن أن تشكل مرجعًا في دراسة الأحوال الاجتماعية والسياسية خلال مراحل الدولة العباسية المختلفة؛ فمن مدح الخلفاء خلال عهود القوة والذين قاموا بتقديم الدعم المالي للشعراء، إلى التذمر من ضنك العيش وفقر الحال واستشراء الفساد خلال عهود الضعف، كان الشعر دومًا أبرز الميادين التي تعكس حياة المجتمع، نظرًا لكونه العماد الرئيس للثقافة في العصر العباسي.
أحد أبرز التيارات الشعرية، كان تيار الغزل الماجن، ومن شعراء هذا التيار أبو نواس في قصائده المعروفة بالخمريات، وبشار بن برد الذي ولد أواخر العهد الأموي في مدينة البصرة جنوب العراق، ونقل أنه كان مخالطًا للعلماء والشعراء واشتهر بالتردد على الحانات ما ظهر في أدبه شعرًا ماجنًا حتى قتل بتهمة الزندقة،[129][130] ومن أشعاره في وصف إحدى المغنيات البغداديات:
أذنــي لـبـعض الحيّ عاشقةٌ والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فاسمعيني صوتًا طربًا هزجًــا يزيد الصبا محبًا فيك أشجانـا
وفي مقابل الشعر الماجن، برز الشعر الديني بشكل قوي في العصر العباسي، وقد انقسم الشعر الديني في ذاته إلى تيارات مختلفة. منها من امتدح أركان الإسلام ورموزه، وقد استمرّ هذا التيار سائدًا حتى عهد الخلافة العباسية في القاهرة ومن قصائده المرموقة قصيدة "البردة" للشاعر البوصيري، والتي نظمها في أعقاب خلع النبي محمد لبردته في الحلم على رجلي الشاعر، فعادت إليهما الحياة بعد الشلل، فالقصيدة حسب معتقدات الشاعر، أشبه بشكر للنبي ومنها:
مــحـــمــدٌ سيد الكونـين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجمِ
هو الحبيبُ الذي ترجى شفاعتــهُ لكل هول من الأهوال مقتـحـــمِ
الشاعر والفيلسوف المتصوّف جلال الدين الرومي وفي ديوانه المثنوي خمس وعشرون ألف بيت شعر بالفارسية. ويظهر في الصورة أيضًا دراويش مولويون يعتبر الرومي مؤسسهم.
أما النوع الثاني من الشعر الديني، فهو التيار الذي غلب عليه الزهد والتأمل الفلسفي في الحياة والله، ولعلّ أبو العتاهية المولود في الأنبار عام 750 أبرز شعراء هذا التيار، بل إن البعض من الباحثين يعتبره مؤسسًا لتيار الزهد الشعري كما يعتبرونه قد ارتقى بالشعر الزاهد ليبلغ الفلسفة والحكمة؛ وعندما توفي عام 825 كان قد ترك دووادين عدة في الشعر الزاهد، رغم أنه لم يلتزم في جميع قصائده بقواعد الشعر كالعروض. ووما قاله أبو العتاهية في الزهد:[131]
إنما الدنيا فناءٌ، ليس للدنيا ثبوتُ إنما الدنيا كبيتٍ، نسجته العنكبوتُ
وقد بلغ الشعر الزاهد لدى بعض الشعراء كأبو العتاهية نفسه مبلغًا أنكر من خلاله جدوى الدين واكتفى بالتسليم بالله؛ أما النوع الثالث من الشعر الديني، فهو التيار الصوفي، وقد تعدد رواده ليس فقط في الدولة العباسية وإنما في الأندلس أيضًا. من الشعراء الصوفيين ابن فارض المولود في مصر عام 1180 وابن سينا الطبيب والفيلسوف والشاعر المولود في بلاد فارس عام 980، وأبو حامد الغزالي المولود عام 1059 والذي عاصر الاقتتال الطائفي بين المعتزلة والأشاعرة،[132] ومن الشعراء من أسس نمطًا خاصًا من الشعر الصوفي يدعى الشطح، كان من رواده أبو يزيد البسطامي.[133]
بعيدًا عن الشعر الديني، فقد استمر الشعراء العباسيين بالافتخار بأنفسهم والاعتداد بما صنعوا أو الافتخار بقبائلهم. قال الشاعر المتنبي أحد أبرز شعراء العصر العباسي مفتخرًا بموقعه في المجتمع الذي أخذ الفساد فيه بالانتشار:
مـا مـقـامي بـأرض نـخـلـةٍ إلا كـمـقـام الـمـسـيحِ من الـيـهـودِ
أين فضلي إذا قنعت من الدهــ ــر بعيشٍ معجلِ التنكيــــــــــدِ
وقام صفي الدين الحلي بالسير على عادة العرب القدماء بالافتخار بقبائلهم وقوتهم في ساحات الوغى،[134] وإلى جانب قصائد المدح، فقد كان للهجاء نصيبًا في الشعر العباسي، وأغلب الشعراء قد كتبوا في هذا النمط الشعري ومنهم دعبل الخزاعي من مواليد البصرة عام 769 في هجاءه والي الرحبة مالك بن طوق.[135] وإلى جانب المدح والهجاء كان للرثاء دور في الشعر العباسي وأبرز من نظم قصائد الهجاء الشريف الرضي وأبو تمام. ولم يغب الشعر الوصفي الذي درج عليه العرب القدماء عن ساحة الشعر العباسي، بل إن أغلب الشعراء استهلّوا قصائدهم بوصف الطبيعة أو غيرها من المواضيع قبل الولوج في صلب الموضوع الخاص بقصيدتهم، ولعلّ صفي الدين الحلي وأبي تمام من أبرز شعراء الوصف في ذلك العصر. ومن التيارات الشعرية الأخرى التي انتشرت كان شعر الغزل الذي احتلّ النصيب البارز إذ تتعدد القصائد التي تصف الحبيب وتتغزل بشيمه وأوصافه، والتيار الاجتماعي وأبرز شعرائه ابن فارس وأبو العلاء المعري،[136] فضلاً عن محاولة تأريخ الأحداث وحل المساجلات الدينية من خلال الشعر.
وإن كان الشعر العباسي هو بالدرجة الأولى شعر عربي، غير أنه قد برز العديد من الشعراء الذين شادوا بلغات أخرى خصوصًا الفارسية والتركية ولاقوا دعم الأمراء والسلاطين في مناطقهم. من أمثال هؤلاء جلال الدين الرومي المولود عام 1207 والذي كتب بالفارسية وأسس الطريقة المولوية وفي ديوانه المثنوي خمس وعشرون ألف بيت شعر؛ وهناك منصور أبو القاسم الفردوسي المولود عام 940 مؤلف ملحمة الشاهنامه، ومن الشعراء الذين كتبوا بالتركية يونس الإمري