العصر العباسي الثاني: عصر الحرس التركي
[عدل] طلائع الانهيار (847 - 862)
الدول الإسلامية المتعددة التي نشأت بعد ضعف الدولة العباسيّة وزوال هيبة الخلافة في بغداد.
لم يستطع العباسيون الحفاظ على وحدة الدولة كما فعل أسلافهم الأمويين، فاستقلّ عبد الرحمن الداخل بالأندلس منذ قيام الدولة، وفي خلافة موسى الهادي استطاع إدريس بن عبد الله بن الحسن الفرار من مذبحة لحقت بأسرته وأنصارها في المدينة المنورة إثر مطابة والده بالخلافة، واتجه إلى المغرب حيث أسس الدولة الإدريسية المستقلة وعاصمتها مراكش، وفي عهد المأمون تولى إبراهيم بن الأغلب ولاية إفريقية التي تشمل ليبيا وتونس وشمال الجزائر، وبقي حكم هذه الولاية محصورًا في ذريته حتى ظهور الدولة الفاطمية، ولم يحفظ بنو الأغلب للخلفاء العباسيين سوى الخطبة وسك اسم الخليفة على النقد، وبذلك فإن الدولة العباسية منذ عهود قوتها لم تحفظ وحدة أراضيها الإدارية، وهو الأمر الذي سيكرس رسميًا وفي كل جهات الدولة خلال عصور التراجع والانحطاط.[20]
أبرز أوجه عصور الانحطاط، سوى استقلال الولاة والسلاطين في شؤون ولايتهم بل وتأسيسهم دول مستقلة تمامًا في بعضها، كان تدخل الجيش في تعيين الخلفاء.[21] توفي أول السلاطين الأتراك أشناس عام 844م وخلفه وصيف التركي، وعندما توفي الواثق عام 847م ما كانت مبايعة المتوكل على الله لتتم لولا رغبة السلطان وصيف، في وقت كانت الأسرة العباسية والمقربين منها، تميل لمبايعة محمد بن الواثق بالخلافة.[22]
ضريح الحسين بن علي في كربلاء، ويسميه الشيعة "العتبة الحسينية المقدسة"، كان قد تعرض للهدم خلال خلافة المتوكل على الله عام 850م.
حاول المتوكل على الله الثورة على واقعه، فقتل عددًا من قواد الجيش كابن الزيات وإيناخ، ونقل عاصمة الدولة إلى دمشق عام 858م إلا أنه اضطر العودة إلى سامراء بعد شهرين فقط بضغط الأتراك،[23] وقام أيضًا بتحويل المذهب الرسمي من المذهب المعتزلي إلى المذهب السني الشافعي، ما مثّل نقلة كبيرة لدى الدولة العباسية التي طرأت عليها عدة مراحل من التطورات الدينية، إذ بدأت مع تقارب مع الشيعة وسرعان ما انقلبت عليهم،[24] واعتمدت الاعتزال كعقيدة الدولة منذ عهد المأمون. وكان المتوكل على الله قد أمر عام 850م بهدم ضريح الحسين بن علي في كربلاء وضريح علي بن أبي طالب في النجف ومنع الناس من زيارتهما،[25] كما أمر بهدم جميع الكنائس في العراق ومناطق أخرى وكذلك الكنس اليهودية مع وضع شارات معينة على لباس المسيحيين واليهود ومنعهم من ركوب الخيل،[26] وعلى الرغم من دعواته المتلاحقة للعمل بالشريعة الإسلامية إلا أن ما أقدم عليه يتنافى مع قواعدها، حيث كفل نظام أهل الذمة الإسلامي حقوقًا وكرامة أوسع لليهود والمسيحيين.
أخيرًا اتفق بعض الجند الأتراك مع ابنه المنتصر بالله على قتله في مجلس شرابه يوم 10 ديسمبر سنة 861م، الموافق فيه 3 شوّال سنة 247هـ غير أن خلافة المنتصر بالله لم تطل إذ سرعان ما قضى عليه الأتراك بالسم في مايو 862م، وبويع أبو العباس أحمد المستعين بالله ابن المعتصم بالله بالخلافة،[27] لأن رجال السلطان لم يرد أن يبايع أحد أولاد المتوكل خليفة.
[عدل] عهد الفتن والحروب الداخلية (862 - 1055)
Crystal Clear app kdict.png طالع أيضا :طولونيون و فاطميون و سامانيون و بويهيون و حمدانيون و أغالبة و اخشيديون و غزنويون و صفاريون و قرامطة
صحن مسجد ابن طولون مؤسس الدولة الطولونية في القاهرة، ويعتبر من المساجد الألفية.**
شهدت خلافة المستعين بالله قيام الدولة الطاهرية في خراسان، كما استقلت طبرستان تحت حكم الحسن بن زيد الملقب "بالداعي إلى الحق"، وحصرت وظيفة السلطان بعائلة بغا التركي، ما مهد لظهور الفتن بين الأتراك أنفسهم، فحاصر المتمردون قصر الخليفة في سامراء فهرب إلى بغداد، عندها بايع الجند الثوّار المعتز بالله خليفة، فأرسل جيشًا بخمسين ألف مقاتل إلى بغداد، التي قام أهلها بخلع المستعين ومبايعة المعتز، حقنًا للدماء، بل أن المستعين نفسه بايع المعتز، إلا أن الخليفة الجديد قتل سلفه.[28]
فارس صفاري، أحد الدول التي نشأت في كنف الدولة العباسية، بلباسه الكامل.
وفي خلافة المعتز بالله قامت الدولة الطولونية في مصر، والتي لم تترك للخليفة سوى الخطبة والسكة، واستولى يعقوب الصفار على بلاد فارس، ما دفع المؤرخ محمد فريد بك للقول بأن أملاك الخلافة العباسية لا تزيد عن ربع ما كانت قبلاً لدولة بني أمية.[29] ورغم مسالمة المعتز للأتراك وتعيين من شاؤوا في مناصب الدولة العليا، إلا أنهم قد خلعوه عام 870م لتردي الوضع الاقتصادي ونضوب خزينة الدولة،[30] وبايعوا المهتدي بالله بن الواثق بالخلافة، وقد مات المعتز في سجنه من العطش والجوع.[29]
قلعة حلب، مركز حكم الحمدانيين.
خزان مياه صناعي في القيروان من عهد الدولة الأغلبية.
صحن مزخرف يعود للدولة البويهية: على الرغم من انشغال البويهيين بالحروب الداخلية، إلا أنهم تركوا آثارًا تدل على عنايتهم بالفنون.
قبر البخاري، أحد أشهر من جمع الحديث النبوي في أوزباكستان، كانت وفاته في خلافة المعتمد على الله.
حاول الخليفة الجديد كسر شوكة الأتراك، فقتل قائدهم بايكال بعد أشهر من توليه الخلافة، فقتله الأتراك ولم يمض على خلافته عام واحد بعد؛ وبويع المعتمد على الله بن المتوكل على الله خليفة، وفي عهده ثار الزنوج في البصرة وواسط وعاثوا فسادًا في بغداد نفسها، احتجاجًا على سوء الأوضاع الاقتصادية والمعاملة الاجتماعية الدونية،[31] كما أكمل الطولونيون استقلالهم بمصر مانعين السيادة الاسمية للخليفة المتمثلة بذكر اسمه في الخطبة، وقد استطاع الطولونيون السيطرة على أغلب بلاد الشام فلم يبق للعباسيين سوى العراق. ويعود لخلافة المعتمد وفاة الإمامين بخاري ومسلم الذين اشتهرا بجمع الأحاديث النبوية، وظهور طائفة الإسماعيلية.
توفي المعتمد على الله عام 892م، وبويع المعتضد بالله خليفة، وكانت خلافته وخلافة ابنه المكتفي بالله تحسنًا في الأوضاع الاقتصادية والسياسية على السواء،[32] كما استعاد العباسيون مصر وهزموا الإسماعيلية في عدة مواقع، وظهرت الدولة السامانية التي استعادت طبرستان وسيطرت على بلاد فارس وخراسان مع حفظ السلطة الاسمية للخليفة، كما أعيدت عاصمة الدولة إلى بغداد.
وإثر وفاة المكتفي في أغسطس 908م، بويع المقتدر بالله خليفة، إلا أنه خلع مرتين: الأولى لدى بداية عهده وبويع عبد الله بن المعتز إلا أنه قتل في اليوم التالي خلال الفتن بين أنصاره وأنصار المقتدي،[33] فكانت خلافته يومًا واحدًا ولم يعتبره جميع المؤرخين خليفة، والثانية عام 929م حيث خلعه الجند ورجال الدولة بسبب سيطرة النساء والخدم على الدولة إلا أنه عاد بعد ثلاثة أيام، واستمر في الخلافة حتى قتل عام 932م خلال معركة بينه وبين مؤنس التركي أحد قواد الجيش،[34] وأصبح أخاه القاهر بالله خليفة، إلا أن مؤنس نفسه خلعه بعد عامين وسمل عيناه وسجنه، وفي خلافته ظهرت الدولة البويهية في بلاد فارس وخراسان، كما استقلت تونس والجزائر وليبيا نهائيًا مع ظهور الدولة الفاطمية التي قضت على حكم الدولة الأغلبية، وبنو رستم وبنو مدرار، والذين وإن استقلوا فعليًا عن الدولة العباسية إلا أنهم حفظوا سيادتها الاسمية.
وفي خلافة الراضي بالله، ظهرت الدولة الإخشيدية في مصر وسيطرت على أجزاء واسعة من بلاد الشام وأصبح نفوذ أمير الأمراء من القوة بحيث أنه عندما مات الراضي بالله عام 940م لم تتم مبايعة الخليفة مباشرة خلافًا للعرف القائم منذ عهد أبو بكر، بل انتظر أسبوعًا لحين عودة بجكم أمير الأمراء من واسط ومبايعته المتقي لله.[35]
السنوات اللاحقة أصبحت صراعًا على منصب أمير الأمراء، فتوالى بعد بجكم، ابن البريدي الذي خلعه الشعب في بغداد لظلمه، ثم كورتكين فابن رابق، الذي هرب والخليفة إلى الموصل احتماءً لدى الحمدانيين من بطش ابن بريدي العائد إلى بغداد؛[36] ولم يلبث ناصر الدولة بن حمدان أن قتل ابن رابق وتولى إمارة الأمراء بنفسه وأعاد الخليفة إلى بغداد، تلاه تورون الذي سجن الخليفة وسمل عينيه وبايع المستكفي بالله عام 944م، إلا أنه خلع عام 946م، وقد توالى في خلافته القصيرة ثلاثة في منصب أمير الأمراء، هم تورون وابن شيرزاد ومعز الدولة بن بويه مؤسسًا الدولة البويهية،[37] وقد خلع معز الدولة الخليفة وعيّن المطيع لله خليفة؛ وقد شهدت خلافته امتداد نفوذ الفاطميين من تونس إلى مصر وبلاد الشام، بحيث أصبح العالم الإسلامي مقسمًا على ثلاثة خلفاء في آن واحد، في قرطبة والقاهرة وبغداد، أضعفهم سلطة خليفة بغداد.
لم تكن خلافة المطيع لله الذي بويع عام 946م مختلفة عما سبقه من عهود، إذ استمرت الحروب بين البويهين والحمدانيين والجند الأتراك، وأغار البيزنطينيون على حدود الدولة واستعادوا أجزاءً من الأناضول وكيليكيا كانوا قد فقدوها سابقًا، وثار الأتراك بقيادة سبكتكين عام 974م على الدولة البويهية وخلعوا الخليفة وبايعوا ابنه الطائع لله،[38] وكانت خلافته تفتقر إلى الاستقرار السياسي مع تتالي الحروب والفتن بين بني البويه من ناحية والأتراك من ناحية ثانية حتى خلعه عام 991م، وبويع إثره القادر بالله خليفة وقد مكث بالحكم أربع عقود، شهدت قيام الدولة الغزنوية وانهيار الخلافة الأموية في الأندلس، واستمرار الحروب بين البويهيين والأتراك، ثم سادت فترة من الهدوء بعد أن قبض بهاء الدولة البويهي على الحكم، وكذلك في عهد خليفته سلطان الدولة وأخاه شرف الدولة والذي بوفاته، ضعفت الدولة البويهية وعظم أمر الأتراك، ووصلت ذورتها في أواخر خلافة القادر، حين قام أرسلان بن عبد الله البساسيري بالخطبة للخيفة الفاطمي في بغداد،[39] فاستنجد الخليفة العباسي بطغرل بك قائد السلاجقة، فدخل بغداد عام 1055م، وثبت الخليفة العباسي، وابتدأ عصر آل سلجوق في بغداد.
شهدت تلك المرحلة أيضًا خصوصًا خلال القرن العاشر هجرة قبائل كردية من جوار بحر قزوين للاستقرار في العراق وشمال بلاد الشام؛ وازدهار هجرة القبائل أدى إلى تعاسة الوضع الاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن تكاثر الحروب الداخلية والخارجية. إحدى أمثلة ذلك الدولة العقيلية والدولة المروانية اللتين ورثتا الدولة الحمدانية بعد انهيارها عام 979، وغلب الطابع العربي على الأولى بينما الطابع الكردي على الثانية، وقد اقتتلا طويلاً للسيطرة على الجزيرة السورية، كما قادت الدولة العقيلية حروبًا عدة ضد الدولة البويهية في بغداد. أما الحروب الخارجية، فتتمثل بغارات الإمبراطورية البيزنطية على حلب وأنطاكية واحتلالهما قسطًا من الزمن، بنتيجة تشقق الوضع الداخلي.[40]
[عدل] العصر العباسي الثالث: عصر آل سلجوق
[عدل] السلطنة السلجوقية في أوجها (1055 - 1092)
Crystal Clear app kdict.png مقال تفصيلي : الدولة السلجوقية
نصب للسلطان السلجوقي ألب أرسلان، الذي بلغت الدولة في عهده أوجها.
وفق أكثر النظريات انتشارًا، فإن السلاجقة هم جمهرة من القبائل التركية الرحل المحاربة، كانت تستقر في الصين وانتقلت منها إلى بخارى حيث اعتنقت الإسلام في عهد مؤسسها سلجوق،[41] ثم استطاعت تحت زعامة طغرل بك السيطرة التدريجية على أملاك الدولة الغزنوية ثم الدخول إلى بغداد بناءً على طلب الخليفة، الذي عين طغرل بك سلطانًا وخطب باسمه في 15 ديسمبر سنة 1055م، الموافق فيه 22 رمضان سنة 447هـ، ولقبه "بملك المشرق والمغرب" وزوجه ابنته.[42] وإثر وفاته عام 1063م، كان طغرل بك قد حقق استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا في الأوضاع، وقد خلفه ألب أرسلان الذي امتد حكمه حتى القدس واستطاع عقب انتصاره في معركة ملاذكرد تأسيس دولة سلجوقية في الأناضول هي الأولى من نوعها؛[43] غير أنه قتل في إحدى معاركه عام 1064م وتلاه ابنه جلال الدولة ملكشاه، الذي شهدت سلطنته وفاة الخليفة القائم بأمر الله بعد خلافة استمرت خمسة وأربعين عامًا تعكس الاستقرار وتحسن الأوضاع المعيشية، وبويع المقتدي بأمر الله بالخلافة. وقد اهتم ملكشاه بالعلوم والفنون وشيّد في بغداد مرصدًا فلكيًا ومسجدًا كبيرًا دعي "جامع السلطان"،[44] وقد برز في عهده أيضًا عمر الخيام وثار القرامطة في البصرة عدة مرات، وبوفاته عام 1092م أخذت الدولة السلجوقية بفقدان قوتها، إذ تفرقت إلى عدة عدة دول مستقلة في بلاد الشام والعراق وبلاد فارس وغيرها، بل تحولت الساحة إلى دسائس وتحالفات بين الملوك السلاجقة ضد بعضهم البعض بهدف توسيع إمارتهم. لا شكّ أن تكلفة هذه الحروب الداخلية المستمرة، لم تؤثر فقط على الاستقرار الاجتماعي في البلاد، بل على الوضع الاقتصادي أيضًا بسبب كلفتها الباهظة، ما سهّل تحقيق انتصار الحملة الصليبية الأولى عام 1098م، وكان المستظهر بالله حينها يشغل منصب الخليفة منذ عام 1094م.[45]
ملك القدس بالدوين الأول يدخل الرها في فبراير 1098.
[عدل] حروب السلاجقة وغروب دولهم (1092 - 1136)
Crystal Clear app kdict.png مقالات تفصيلية :حملات صليبية و زنكيون
استطاعت الحملة الصليبية الأولى تأسيس أربعة ممالك لاتينية في المشرق، هي إمارة الرها وإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس، التي كانت تحت سلطة الخلافة الفاطمية مجددًا منذ عام 1096م. لم يستطع السلاجقة ردع الصليبيين عن ساحل بلاد الشام، بيد أنهم صدّوا تقدمهم نحو أنقرة وقلب الأناضول كما أوقفوا تقدمهم تجاه حلب والعراق عمومًا. أما العراق وخلافته فكانا منشغلان بالحروب الداخلية والثورات التي يقودها القرامطة فلم يتم إعناء مقاومة الصليبيين أو ردعهم أية أهمية تذكر، وقد نقل أنه في أعقاب سقوط القدس عام 1099م زار وفد من أهالي المدينة الناجين الخليفة المستظهر بالله فاعتذر منهم مبديًا عواطفه، ثم عاد وأرسل عام 1111م جيشًا صغير الحجم بقيادة مودود بعد مضايقة الصليبيين لحلب.[46]
أواخر عهد المستظهر استقرت الأوضاع للسلطان محمد السلجوقي غير أن وفاته عام 1118م فجّرت الوضع مجددًا بين وريثه محمود السلجوقي وأخاه داود وبعض أعمامه؛ وإثر وفاة الخليفة المستظهر في أغسطس 1118م أصبح المسترشد بالله خليفة، وفي خلافته ظهر عماد الدين زنكي والي الموصل والذي وسع أملاكه ضامًا حلب وحمص، وتلاه ابنه نور الدين زنكي الذي ضم دمشق ومصر. خلال نمو الدولة الزنكية كانت حروب السلاجقة الداخلية لا تزال مستمرة فانتصر مسعود السلجوقي على ابن أخيه محمود، وقتل الخليفة المسترشد عام 1135م أثناء محاربة مسعود مدافعًا عن محمود،[47] وأصبح الراشد بالله خليفة من بعده، غير أن السلطان مسعود السلجوقي سرعان ما خلعه، فهرب الخليفة إلى أصفهان حيث قتل عام 1136م وأصبح المقتفي لأمر الله خليفة من بعده.[48]
[عدل] الخلفاء يستعيدون السيطرة على بغداد (1136 - 1242)
الجامعة المستنصرية في بغداد، والمسماة على اسم مؤسسها الخليفة المستنصر.
استطاع المقتفي لأمر الله أن يستقل بحكم بغداد وجوارها عن السلاجقة المستقلين بمحاربة بعضهم بعض، ودعم الأسرة الزنكية التي بلغت شأنًا عاليًا في محاربة الصليبيين واستطاعت استعادة الرها منهم؛ وعندما توفي عام 1170م بويع ابنه المستنجد بالله بالخلافة، فاستمر بسياسة والده الرامية إلى الحفاظ على استقلال بغداد وجوارها، وأرسى إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، وكان في خلافته أن خطب للعباسيين في مصر على يد الدولة الزنكية بعد وفاة آخر الخلفاء الفاطميين العاضد لدين الله، وبذلك توحدت الخلافة الإسلامية مجددًا؛ كما شهدت خلافته قيام السلطنة الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي الذي سيطر على بلاد الشام والحجاز واليمن ومصر وليبيا، واستطاع صلاح الدين في عهد الخليفة المستضيء بأمر الله استعادة القدس وعدد آخر من المدن التي كانت واقعة تحت سيطرة الصليبيين عام 1187م في أعقاب معركة حطين، وتصدى للحملة الصليبية الثالثة.[49] وتلى المستضيء ابنه الناصر لدين الله، والذي استطاع كما فعل والده وجده، الحفاظ على الجزء الأكبر من العراق مستقلاً تحت إدارته الفعلية لا إدارة الوزراء أو الجيش، وقد دعا عدد من المؤرخين فترة هؤلاء الخلفاء الذين استقلو بالعراق اسم "فترة استعادة هيبة الخلافة"، وقد توفي الناصر لدين الله، والذي اشتهر بالحكمة والحنكة، بعد خلافة طويلة دامت خمسةً وأربعين عامًا في أكتوبر سنة 1225م.[50]
في الواقع، فإن وضع العراق خلال عهد الناصر لدين الله، كان أفضل بكثير عن سائر أمصار الدولة العباسية؛ فبعد وفاة صلاح الدين الأيوبي عام 1193م ودفنه في دمشق، اقتسم أولاده السبعة عشر سلطنته المترامية الأطراف، وكما فعل السلاجقة من قبلهم، تحارب الأمراء الأيوبيون وشكلوا أحلافًا ضد بعضهم البعض،[51] واستوردوا قبائل تركية وشركسية دعيت لاحقًا باسم المماليك؛ أما أحوال أقصى المشرق الإسلامي، كبخارى وكابُل وجوارهما، فكانت سيئة هي الأخرى، بسبب تعرضهما للغزو والتخريب من قبل المغول بقيادة جنكيز خان. على أن ما وصل من أخبار ذلك العصر في العراق وسواه، لا تفيد بأوضاع ثقافية جيدة أو دعم للعلوم والفنون من قبل الخلفاء وحاشيتهم، كما كان الحال في عصر الدولة الذهبي.
تلى الناصر ابنه الظاهر بأمر الله، لكنه توفي بعد عام واحد فقط، وصارت البيعة لابنه المستنصر بالله عام 1226م وقد أسس الجامعة المستنصرية،[52] ونقل المؤرخون أنه أسس دورًا لضيافة الفقراء وإعتاق الرقيق،[53] وفي خلافته سيطر المغول على بلاد فارس محاذين بذلك العراق.
[عدل] خلافة المستعصم بالله ونهاية الدولة (1242 - 1258)
Crystal Clear app kdict.png مقالات تفصيلية :المستعصم بالله و سقوط بغداد (1258)
هولاكو يسجن الخليفة ويمنع عنه الطعام والشراب حتى موته في 20 فبراير سنة 1258م، وقد ترك هولاكو للخليفة صحون وأكواب الذهب التي كان يأكل بها فارغة أمامه في السجن.
توفي المستنصر في ديسمبر من سنة 1242م، وتلاه ابنه المستعصم بالله آخر العباسيين في بغداد؛ والذي شهدت خلافته نهاية محطات مهمة في تاريخ الخلافة العباسية؛ منها فشل الحملة الصليبية السابعة والثامنة وهما آخر الحملات الصليبية مما عجل في نهاية تلك الحقبة، وعمومًا فإنه باستثناء الحملة الصليبية الأولى والثالثة والرابعة التي توجهت إلى القسطنطينية لم تحقق أي حملة صليبية نصرًا هامًا وطويل الأمد في المناطق التي استولت عليها. وفي أعقاب الحملة الصليبية الثامنة، كانت أملاك الصليبيين الأساسية في المشرق تقتصر على أنطاكية وطرابلس وعكا كجزر متناثرة وغير متصلة جغرافيًا. كذلك فقد شهدت خلافته نهاية السلطنة الأيوبية عام 1250م بعد وفاة الملك الصالح أيوب واستلام شجرة الدر السلطنة مكانه ثمانين يومًا ليقوم جند زوجها بخلعها والسيطرة على الحكم بانقلاب سلمي. انتخب إثره عز الدين أيبك سلطانًا.[54]
مخطوطة تصور الحصار المغولي لبغداد عام 1258، قبل اقتحامها في 10 فبراير سنة 1258م، ويظهر في الصورة نهر دجلة.
أما الحدث الثالث، فتمثل بسقوط بغداد حاضرة الخلافة على يد المغول بقيادة هولاكو خان التتري، حيث سار هولاكو على رأس جيش ضخم بأمر من إمبراطور المغول منكو خان الذي أمر ان يخرج معه كل ذكر قادر على حمل السلاح في الإمبراطورية، ثم انضم للجيش قبائل أرمنية وجورجية وتركية وفارسية.[55][56] ويرى المؤرخ آلان دمورجيه أن الجيش الصليبي المرابط في أنطاكية وطرابلس كان أيضًا من المشاركين في الهجوم.[57]
طالب هولاكو الخليفة المستعصم بالله بالاستسلام، ولكن الخليفة رفض محذرًا المغول من العقاب الألهي الذي سيحلّ بهم في حال هاجموا الخلافة؛ يشير الكثير من المؤرخين بأن أحد أسباب نجاح الهجوم المغولي هو حالة الجيش العباسي الضعيفة وتسريح عدد كبير من جنده لتقليص النفقات خلال تولي ابن العلقمي شؤون الوزارة، فضلاً عن ضعف استحكامات المدينة وعدم تقوية أسوارها؛ يقول ديفيد نيكول بأن الخليفة بالإضافة لفشله بتجهيز آلية الدفاع عن المدينة بشكل جيد، فقد أساء كثيرًا لهولاكو بتهديده إياه، إضافة إلى وثوقه المبالغ فيه لوزيره ابن العلقمي، ما ساهم على تدمير المدينة والخلافة، مع أن مونكو خان أمر أخاه هولاكو بالمحافظة على الخلافة إن وافق الخليفة الخضوع لسلطة المغول.[58]
قبل التوجه إلى بغداد، دمر هولاكو قبائل اللور ومن ثم حصّل استسلام الإسماعيليين والمعروفين أيضًا باسم الحشاشين بعد أن حاصر حاضرتهم قلعة ألموت في شمال إيران على شواطئ بحر قزوين، ورغم ذلك فقد قتل هولاكو الكثير منهم باستثناء نصير الدين الطوسي وأتباعه والذين لحقوا بجيش هولاكو المتوجه لمحاصرة بغداد منذ عام 1256م. قسم هولاكو جيشه إلى قسمين، وضرب حصارًا حول بغداد بدءًا من يوم 29 يناير سنة 1258م؛ دمر المغول السدود وقنوات الري ما ساهم في تدمير الزراعة وإفاضة المياه داخل المدينة، ثم إن قصف المقالع والمناجيق سهلت سقوط استحكامات العباسيين الواحدة تلو الأخرى حتى أحاط المغول بالمدينة من كل جانب يوم 5 فبراير 1258م / 30 محرم 656هـ؛ حاول المستعصم أن يفاوض المحاصرين لكن هولاكو رفض، واقتحم بغداد يوم 10 فبراير 1258 م / 4 صفر 656هـ، مرتكبين مذابحًا بحق أبنائها، وبحسب بعض المصادر بلغ عدد القتلى من الجند والمدنيين مليوني شخص بل حتى من حاول من الأهالي الفرار عمد المعول إلى قتله،[59] ويذكر أن هولاكو أمر بنقل مقر المخيم بسبب روائح الموت المنبعثة؛ كما بدؤوا عمليات سلب ونهب ثم إحراق، فتلفت المكتبات وما تحويها وقيل أن مياه نهر دجلة تحولت إلى اللون الأسود لكثرة ما رمي فيها من أوراق محترقة،[60] وكذلك حال المساجد والقصور والجامعات.[61] أما الخليفة فقد أمر هولاكو بحبسه ثم منع عنه الطعام والشراب حتى مات في 20 فبراير 1258م، لتزول بذلك الخلافة العباسية في بغداد.[62]