تتوالى الدراسات الطبية عن الجزر ويبدو أن جذور هذا النوع من الخضار لم تذهب بعيداً في جمعها لعناصر الصحة والعافية من باطن الأرض، كونها تتحول الى منجم غني بالمعادن والأملاح والفيتامينات، وما على الإنسان إلا أن يأخذ منها ما شاء ليضيفها الى أطباق الطعام الشهية نيئاً كان أو مطبوخاً.
والدراسات التي بحثت الأمر خرجت بنتائج تطرح تناوله كأحد أهم المنتجات الغذائية عالية الفائدة الطبية للصغار والكبار. فقوة الجزر تنبع من تركيز مادة “بيتاكاروتين” التي تتحول في الجسم الى فيتامين أيه (A)، وكذلك من وجود فيتامين كي (K) الأساس في تفعيل عمل عناصر تخثر الدم، ومواد “فايتو” الكيميائية، وجملة أخرى من المواد النافعة.
.
ويشير تحليل المختبرات لكوب من الجزر المقطع، بوزن 120 غراما، الى أنه يحتوي على كمية من السكريات بمقدار 12 غراما، وواحد غرام من البروتين، وكمية لا تذكر من الدهون، ليبلغ بهذا مجموع الطاقة فيه حوالي 52 كالوري (سعر حراري). وبمقارنة الحاجة اليومية من الفيتامينات، فإن هذه الكمية من الجزر تمد الإنسان بأكثر من ستة أضعاف حاجته اليومية من فيتامين إيه (A)، وكذلك بأكثر من ضعفي حاجته اليومية من فيتامين كي (K)، و 20% من فيتامين سي (C)، و10% من فيتامينات بي – 1(ثيامين)، وبي-6 (بايريدوكسين)، وبي-3 (نياسين)، وكذلك 5% من فيتامين الفوليت. أما من المعادن والأملاح فإنها تمده بحوالي 10% من البوتاسيوم والمنغنيز، و5% من الفسفور والمغنيسيوم والكبريت والكالسيوم، وقليل من الحديد والنحاس، و4 غرامات من الألياف.
وترتبط ثلاثة مركبات بعضها ببعض، وهي بيتا كاروتين وألفا كاروتين وفيتامين إيه (A). فبيتا كاروتين استحوذت على الاهتمام الطبي لأنها مادة تتحول في الجسم الى فيتامين إيه (A). وهذا الفيتامين هو ما يلزم في المحافظة على كفاءة جهاز المناعة في الجسم، وعلى سلامة صحة الأسنان والعظام والأنسجة الرخوة في الجسم كالجلد وغيره، إضافة الى دوره في الخصوبة والرضاعة. كما أنه لازم لصنع مركبات الصبغ في شبكية العين، التي تمكن من وضوح الرؤية، خصوصاً في حالات الضوء الخافت. ويمتلك مركب بيتا كاروتين خاصية مضادة للأكسدة يعمل بالإضافة لكونه مصدرا لفيتامين إيه (A) على تحطيم الجذور الحرة، وهي المواد التي تسهم في نشوء الخلايا السرطانية، وفي ترسب الكولسترول على جدران الشرايين، وكذلك على تدهور القدرات الذهنية لخلايا الدماغ. وحالات نقص فيتامين إيه (A)، بحسب الإصدارات الحديثة لمنظمة الصحة العالمية، سبب في حصول 350 ألف حالة عمى أو نقص قدرة الإبصار لدى الأطفال. وبحسب ما ذكرت، فإن نتيجة ذلك وفاة 60% منهم لأسباب متعددة، وهو ما تسهل الوقاية منه.
الحاجة الى هذه المادة هي ضرورة معتدلة، بمعنى أن نقصها من الجسم مضر، وكذلك الإفراط في تناولها من الحبوب الدوائية أو تناولها من المصادر الحيوانية كاللحوم ومشتقات الألبان، لأنه يحمل في طياته أضراراً، كارتفاع نسبة فيتامين أيه (A) في الجسم الذي يعتبر حالة مرضية مستقلة، والى ارتفاع نسب المواد الأخرى المصاحبة في المنتجات الحيوانية كالدهون، لذا فإن توفر مصدر نباتي خال من الدهون، ويؤمن كمية معتدلة منه، هو الحل الأمثل لتلبية حاجة الجسم، وهو ما يفعله تناول الجزر. فالمرء حينما يتناول كميات معتدلة من بيتا كاروتين فإنه يتيح للجسم التحكم في تحويله الى فيتامين إيه (A) حسب حاجته دون أن يضطر لتحويل كميات عالية منه، أو لتراكمه.
.
ألفا كاروتين هي مادة أخرى مهمة، وكانت من زمن قد أشارت دراسة لباحثين من جامعة كيوتو في اليابان الى أنها أقدر على تثبيط العوامل المساهمة في نشوء السرطان من قدرة مادة بيتا كاروتين.
ومواد فايتو الكيميائية، هي في الواقع جانب آخر مما يتوفر من مواد في الجزر وغيره من النباتات، فهي مواد طبيعية نشطة يتجاوز عددها 900 نوع، تعمل مع باقي المواد المتوفرة في النباتات ومع الألياف على الوقاية من الأمراض، كإبطاء الشيخوخة وزيادة المناعة وتوازن عمل هرمونات الجسم وتقليل مخاطر الإصابة بالسرطان وأمراض الشرايين، وهي تمتلك خصائص مضادة للأكسدة وتعمل على تنظيف الجسم من تراكم السموم إضافة الى مقاومة الالتهابات الفيروسية والبكتيرية والذاتية في الجسم.
ألوان الجزر
ألوان الجزر كلها فوائد، وهو يتوفر اليوم بألوان تتراوح من الأبيض مروراً بالأصفر والبرتقالي على درجات ووصولاً الى البنفسجي. والنظرية الأساس في علم التغذية أن قدرات المنتج النباتي للوقاية من الأمراض تعتمد بدرجة كبيرة على لونه، إذْ هو ما يعبر عن المواد الكيميائية الفاعلة فيه. والعوامل المؤثرة في لون الجزر، وبالتالي فائدته عديدة، منها درجة حرارة الجو، فكلما زادت أو قلت عن معدل يتراوح بين درجة 30 و 33 درجة مئوية، كلما قل تركيز صبغ المواد المفيدة. وتعتبر التربة الرملية والغنية بالأسمدة العضوية أفضل، وكلما تعرضت النبتة للشمس فهو أفضل، وكلما زاد ريها كلما قلت نسبة الصبغ المفيد في جذوره. الجزر الأصفر والبرتقالي المنتشر في العالم غني بمواد كاروتين، والأحمر، كما في الصين والهند غني بمواد لايكوبين كالتي في البطيخ والطماطم، والبنفسجي كما في بعض مناطق الشرق الأوسط وتركيا والشرق الأقصى غنية بمادة “أنثوسيانين” كالتي في الكرز، وهي مادة قوية مضادة للأكسدة ومخففة لتخثر الدم وترسب مكوناته، حتى الجزر الأبيض الذي يبدو للناظر خالياً من الصابغات كما في إنتاج وسط آسيا هو غني بمواد فايتو الكيميائية المتقدمة الذكر.
فوائد طبية
وفي هذا المجال تتعدد الدراسات، كل بحسب تأثير المادة الكيميائية في الجزر، لكن بشكل عام فلقد أشارت دراسات كثيرة الى فائدة تناول المنتجات النباتية المحتوية على مواد الكاروتين ومواد فايتو الكيميائية في الوقاية من السرطان. والجزر بالذات تناولته دراسة من بريطانيا ومن الدانيمارك مؤخراً في مجلة الزراعة وكيمياء الغذاء، وأظهرت أن الجزر يقلل من نسبة نشوء سرطان الأمعاء في حيوانات المختبرات. وعزا الباحثون السبب الى إحدى مواد فايتو الكيميائية وتدعى فالكارينول، وهي مادة لها خصائص مقاومة للحشرات والآفات التي تصيب النباتات بشكل عام. كما أن دراسة أخرى تناولت مادة كاروتين وأشارت إلى أن تناول هذه المادة من مصادرها الطبيعية يقلل من سرطان الرئة، وهو ما لم يتحقق حين تناول حبوب فيتامين إيه (A). ودراسات أخرى أشارت الى أن مادة كاروتين الطبيعية تقلل من الإصابة بسرطان الثدي والمثانة والبروستاتة.
وهناك جملة من الدراسات بعضها يشير الى أنه يقلل من نسبة الكولسترول وأخرى تتحدث عن فائدته في خفض سكر الدم وثالثة أنه يقي بنية أنسجة الرئة من التلف لدى المدخنين ورابعة وخامسة عن وقايته للمعدة والأمعاء وغيرها كثير، لكن الواضح هو قدرة المواد التي في الجزر على تقليل الإصابة بالسرطان وكذلك أمراض شرايين القلب.
الدراسات بمجملها تشير الى أن إضافة الجزر الى وجبات الغذاء أمر مفيد بلا ريب للوقاية من الأمراض ولتلبية حاجات الجسم، لكن الفوائد المخصوصة كعلاج فهي حتى اليوم بدائية لا يعتمد عليها في النصائح الطبية العلاجية.
سلامة تناول الجزر
حينما يتناول أي منا كميات عالية من الجزر أو عصيره، فإن مادة بيتا كاروتين يرتفع منسوبها في الجسم وبالتالي تظهر صبغة صفراء برتقالية على الجلد وليس على بياض العين تحديداً. والسبب أن الجسم لا يستطيع التعامل مع كميات تتجاوز ثلاثة أكواب بحجم 8 أونصات (الأونصة 30 غراما تقريبا) من الجزر أو عصيره، لما يتم تناولها دفعة واحدة على معدة خالية. والحالة ليست ضارة كما هو الحاصل في حالات ارتفاع نسبة فيتامين إيه (A)، إذْ شتان بين الأمرين. والجيد في الأمر هو محاولة الجسم خزن الفائض من مادة بيتا كاروتين في الجلد الى أن يصبح بمقدور الكبد تحويلها رويداً الى فيتامين إيه (A)، ولذا يلاحظ تلاشي هذه الحالة مع مرور الوقت. والظاهرة هذه لا تخص مادة بيتا كاروتين الصفراء، بل حتى مادة لايكوبين الحمراء، كما في الطماطم فإنها تترسب في الجلد حال ارتفاع نسبتها في الجسم مما يعطي اللون الوردي للجلد.
كما أن الحساسية من تناول الجزر هي حالة حقيقية، فالدراسات الأوروبية، بدءا من دراسة تمت في سويسرا عام 2001 وما بعدها من دراسات، تشير الى تسبب الجزر في إثارة الحساسية لدى 25% من الأوروبيين الذين يعانون بالأصل من الحساسية.
ولقد تناول الباحثون أيضاً موضوع أيهما أفضل تناول الجزر نيئاً أم مطبوخاً؟. والأمر برمته مرتبط بمدى قدرة الأمعاء على امتصاص المواد النافعة في الجزر إذا ما تم مضغه مع الطعام بطريقة غير سليمة. فالدراسة التي تمت في جامعة أركانسو بينت أن الجزر لا يفقد قيمته الغذائية بالطبخ المعتدل بل ان قدرة الجسم على امتصاص المواد المضادة للأكسدة تزيد مما يرفع نسبتها في الدم مقارنة مع أكله نيئاً، حسب ما بين تحليل الدم لدى المشاركين في الدراسة. والسبب هو قلة المضغ الجيد كما يعزوه الكثيرون، لكن لا توجد دراسة تقارن العصير بالمطبوخ. فالطبخ يذيب شيئاً من صلابة مادة السيليلوز في جدران خلايا الجزر مما يسهل امتصاص ما بها من مواد مفيدة.
الجزر الأبيض
وكما مر سابقاً يختلف الجزر الأبيض عن الجزر العادي المعروف بلونه المميز، كونه يعرف بمذاقه القوي والحلو، وشكله الخارجي بشع ولا يجاري الجزر الأصفر في جماله. والجزر الأبيض له مظهر شاحب، إلا أن فوائده الغذائية والدوائية لافتة جداً للنظر حقاً. والجزر الأبيض من النباتات التابعة للفصيلة الخيمية، مثله مثل البقدونس والكمون والسنوت واليانسون والكراوية، ولكن الجزر الأبيض يختلف اختلافاً كلياً عن النباتات السابقة، بالرغم من أنها من فصيلة واحدة. ويعد الجزر الأبيض من أغنى المصادر الطبيعية بالفولات والألياف وأحماض الراتنج الفينولي، التي أثبتت الدراسات المخبرية أنها تقي من السرطان. وعندما يضع العلماء قوائم رئيسية للمواد العلاجية، فإنهم يضعون الألياف الغذائية قرب أعلى تلك القوائم. ويعد الجزر الأبيض مصدراً جيداً لهذا العنصر، حيث يحتوي كوب من الجزر الأبيض المطهو على حوالي 7جرامات، أي حوالي 28% من المقدار اليومي، وإن أكثر من نصف كمية الألياف في الجزر الأبيض من النوع القابل للذوبان، والذي يتحول في شكل هلامي عند التصاقه بالدهون في الجهاز الهضمي وهذا يساعد على منع الأمعاء من امتصاص الدهون والتخلص من الكولسترول وعدم ترسبه على الشرايين. وفي الوقت نفسه فإن هذه الألياف تخفف الأحماض الصفراوية في الأمعاء الأمر الذي يمنعها من التسبب في السرطان.
يحتوي الجزر الأبيض كذلك على ألياف غير قابله للذوبان، والتي تساعد كثيراً من معدل عبور البراز عبر الأمعاء. وهذا الأمر مهم جداً لأنه كلما قل الوقت الذي تبقى فيه الأحماض الصفراوية في الأمعاء، ينخفض احتمال إتلافها للخلايا، وبالتالي التسبب في تغييرات قد تؤدي إلى الإصابة بالسرطان. ووجد العلماء في مراجعة لأكثر من 200 دراسة علمية أن الحصول على المزيد من الألياف الغذائية قد يقي من الإصابة بمجموعة كبيرة من الأورام السرطانية، تشمل سرطان المعدة والبنكرياس والقولون. كما أظهرت الألياف مقدرة غير عادية على تخفيف أو الوقاية، من حالات أخرى. فقد وجد الباحثون أن الحصول على كمية كافية من الألياف عن طريق الغذاء قد يقي من الإصابة بالبواسير وحالات معوية أخرى. كما أن الألياف تمنع أيضاً التأرجح في معدلات سكر الدم الذي يأتي مصاحباً للداء السكري.
وأكد بعض علماء التغذية أن النقص الأول في المواد الغذائية في الولايات المتحدة الأمريكية هو نقص الفولات، وخاصة بين الأشخاص الأصغر سناً الذين عادة ما يتناولون كميات كبيرة من الأغذية السريعة، التي عادة ما تكون خالية من الفيتامينات والمعادن. ويعتبر الجزر الأبيض غنياً جداً بالفولات، حيث يحتوي كوب واحد على 91 ميكروجرام، أي 23% من المقدار اليومي، والحصول على كمية كافية من الفولات يقي من العيوب الخلقية، كما أثبتت الأبحاث. ويعتقد العلماء كذلك أنه يقلل من خطر الإصابة بالسكتات الدماغية، فالفولات تقلل معدلات نسبة الحمض الأميني المعروف باسم هوموسيستين في الدم، والتي قد تسد الشرايين وتمنع تدفق الدم. وأشارت دراسة فرمينجهام للصحة أن الرجال الذين تناولوا أكبر كميات من الفولات أنخفض لديهم خطر الإصابة بالسرطان بمعدل 59% عن هؤلاء ممن تناولوا أقل الكميات. وحتى هؤلاء الذين تناولوا كميات أعلى قليلاً من تلك التي يحصلون عليها في الأحوال العادية حصدوا فوائد فورية. فقد كشفت الدراسة أن هؤلاء ممن تناولوا ثلاث حصص إضافية من الجزر الأبيض أنخفض لديهم خطر الإصابة بالسكتات بنسبة 22%.
ويعد الجزر الأبيض من المصادر النباتية التي تحتوي على عدد من المركبات الكيمائية الطبيعية، التي تعرف عادة بالعناصر الدوائية النباتية، والتي أثبتت الدراسات المخبرية أنها تثبط انتشار خلايا السرطان. وأهم هذه المركبات الراتنجات الفينوليه، التي تلتصق بالعوامل التي قد تسبب السرطان بالجسم مكونة جزئيات أكبر حجماً والتي تتسم بأنها كبيرة لدرجة يصعب على الجسم امتصاصها.
أهمية الجزر عبر التاريخ
يعتبر الجزر من الخضار القديمة جداًَ في نشأتها. فقد عرفه الانسان في فترة مبكرة من التاريخ. كما عرف فوائده العديدة في تقوية الاعصاب والنظر. كما أطلق عليه البعض لقب “ملك الخضار” لغناه بالفسفور والبوتاسيوم والحديد والكبريت وبفيتامين (A) و(C). وقال عنه العالم العربي ابن سينا في كتابه “القانون”: “ينفع بذره وورقه اذا دق وجعل على القروح المتآكلة نفع عنها، وينفع ذوات الجنب والسعال المزمن، الا انه عسر الهضم والمربى منه أسهل هضماً”.
أما داود الأنطاكي فقد اسهب في شرح فوائد الجزر في تذكرته الشهيرة، وأوضح الجيد منه “وأجوده المتوسط في الحجم، الأحمر الغارب الى الصغير، الحلو، وهو يقطع البلغم وينفع أوجاع الصدر والسعال والمعدة والكبد والاستسقاء، يدر البول، ويفتت الحصى، ويهيج الباه. واذ بشر ناعماً وغلي حتى ينهري وطرح عليه العسل دون اراقة شيء من مائه وسبقت عليه النار اللينة، حتى اذا قارب الانعقاد القي على كل رطل منه نصف أوقية من كل من العود الهندي والقرنفل والزنجبيل والهيل والجوز، فإنه ينفع في تصفية الصوت وتنقية القصبة ومنع السعال، وضعف المعدة والكبد وسوء الهضم.