مدرسة الدوحة الأساسية المقدسية
أهلا و سهلا بكم نتمنى لكم وقتا ممتعا برفقتنا





مدرسة الدوحة الأساسية المقدسية
أهلا و سهلا بكم نتمنى لكم وقتا ممتعا برفقتنا





مدرسة الدوحة الأساسية المقدسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مدرسة الدوحة الأساسية المقدسية

♥ العلم نور ♥
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تفسير سورة الكهف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:30 pm

سُورَة الْكَهْف مَكِّيَّة فِي قَوْل جَمِيع الْمُفَسِّرِينَ . رُوِيَ عَنْ فِرْقَة أَنَّ أَوَّل السُّورَة نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى قَوْله " جُرُزًا

فضلها:
وَرُوِيَ فِي فَضْلهَا مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ بِهَا أُعْطِيَ نُورًا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض وَوُقِيَ بِهَا فِتْنَة الْقَبْر .

وَقَالَ إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي فَرْوَة : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى سُورَة شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْف مَلَك مَلَأَ عِظَمُهَا مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض لِتَالِيهَا مِثْل ذَلِكَ ) . قَالُوا : بَلَى يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( سُورَة أَصْحَاب الْكَهْف مَنْ قَرَأَهَا يَوْم الْجُمْعَة غُفِرَ لَهُ الْجُمْعَة الْأُخْرَى وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام وَأُعْطِيَ نُورًا يَبْلُغ السَّمَاء وَوُقِيَ فِتْنَة الدَّجَّال )

وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ حَفِظَ عَشْر آيَات مِنْ أَوَّل سُورَة الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّال ) .

وَفِي رِوَايَة ( مِنْ آخِر الْكَهْف ) . وَفِي مُسْلِم أَيْضًا مِنْ حَدِيث النَّوَّاس بْن سَمْعَان ( فَمَنْ أَدْرَكَهُ - يَعْنِي الدَّجَّال - فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِح سُورَة الْكَهْف )

سبب نزول السورة:

ذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا النَّضْر بْن الْحَارِث وَعُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط إِلَى أَحْبَار يَهُود وَقَالُوا لَهُمَا : سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمَّد وَصِفَا لَهُمْ صِفَته وَأَخْبَرَاهُمْ بِقَوْلِهِ ; فَإِنَّهُمْ أَهْل الْكِتَاب الْأَوَّل , وَعِنْدهمْ عِلْم لَيْسَ عِنْدنَا مِنْ عِلْم الْأَنْبِيَاء ; فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَة , فَسَأَلَا أَحْبَار يَهُود عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْره , وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْله , وَقَالَا لَهُمْ : إِنَّكُمْ أَهْل التَّوْرَاة وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبنَا هَذَا . فَقَالَتْ لَهُمَا أَحْبَار يَهُود : سَلُوهُ عَنْ ثَلَاث نَأْمُركُمْ بِهِنَّ , فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيّ مُرْسَل , وَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَالرَّجُل مُتَقَوِّل , فَرُوا فِيهِ رَأْيكُمْ ; سَلُوهُ عَنْ فِتْيَة ذَهَبُوا فِي الدَّهْر الْأَوَّل , مَا كَانَ أَمْرهمْ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيث عَجَب . سَلُوهُ عَنْ رَجُل طَوَّاف قَدْ بَلَغَ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا , مَا كَانَ نَبَؤُهُ . وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوح , مَا هِيَ ; فَإِذَا أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَاتَّبِعُوهُ فَإِنَّهُ نَبِيّ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَهُوَ رَجُل مُتَقَوِّل فَاصْنَعُوا فِي أَمْره مَا بَدَا لَكُمْ . فَأَقْبَلَ النَّضْر بْن الْحَارِث وَعُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط حَتَّى قَدِمَا مَكَّة عَلَى قُرَيْش فَقَالَا : يَا مَعْشَر قُرَيْش , قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنكُمْ وَبَيْن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَار يَهُود أَنْ نَسْأَلهُ عَنْ أَشْيَاء أَمَرُونَا بِهَا , فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنْهَا فَهُوَ نَبِيّ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَالرَّجُل مُتَقَوِّل , فَرُوا فِيهِ رَأْيكُمْ . فَجَاءُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد , أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَة ذَهَبُوا فِي الدَّهْر الْأَوَّل , قَدْ كَانَتْ لَهُمْ قِصَّة عَجَب , وَعَنْ رَجُل كَانَ طَوَّافًا قَدْ بَلَغَ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا , وَأَخْبِرْنَا عَنْ الرُّوح مَا هِيَ ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُخْبِركُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا ) وَلَمْ يَسْتَثْنِ . فَانْصَرَفُوا عَنْهُ , فَمَكَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَزْعُمُونَ خَمْس عَشْرَة لَيْلَة , لَا يُحْدِث اللَّه إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا وَلَا يَأْتِيه جِبْرِيل , حَتَّى أَرْجَفَ أَهْل مَكَّة وَقَالُوا : وَعَدَنَا مُحَمَّد غَدًا , وَالْيَوْم خَمْس عَشْرَة لَيْلَة , وَقَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا لَا يُخْبِرنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ ; وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ الْوَحْي عَنْهُ , وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّم بِهِ أَهْل مَكَّة , ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِسُورَةِ أَصْحَاب الْكَهْف فِيهَا مُعَاتَبَته إِيَّاهُ عَلَى حُزْنه عَلَيْهِمْ , وَخَبَر مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْر الْفِتْيَة , وَالرَّجُل الطَّوَّاف وَالرُّوح . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيل : ( لَقَدْ اِحْتَبَسْت عَنِّي يَا جِبْرِيل حَتَّى سُؤْت ظَنًّا " فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : " وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْرِ رَبّك لَهُ مَا بَيْن أَيْدِينَا وَمَا خَلْفنَا وَمَا بَيْن ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّك نَسِيًّا " [ مَرْيَم : 64 ]

الأيأت الـــ8 الأولى:


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا

قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا

وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا

مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا

افْتَتَحَ السُّورَة تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِحَمْدِهِ , وَذِكْر نُبُوَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : " الْحَمْد اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب " يَعْنِي مُحَمَّدًا , إِنَّك رَسُول مِنِّي , أَيْ تَحْقِيق لِمَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ نُبُوَّتك . " وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا " أَيْ مُعْتَدِلًا لَا اِخْتِلَاف فِيهِ . " لِيُنْذِر بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْه " أَيْ عَاجِل عُقُوبَته فِي الدُّنْيَا , وَعَذَابًا أَلِيمًا فِي الْآخِرَة , أَيْ مِنْ عِنْد رَبّك الَّذِي بَعَثَك رَسُولًا . " وَيُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَات , أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا " أَيْ دَار الْخُلْد لَا يَمُوتُونَ فِيهَا , الَّذِينَ صَدَّقُوك بِمَا جِئْت بِهِ مِمَّا كَذَّبَك بِهِ غَيْرهمْ , وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَال .

" وَيُنْذِر الَّذِينَ قَالُوا اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا " [ الْكَهْف : 4 ] يَعْنِي قُرَيْشًا فِي قَوْلهمْ : إِنَّا نَعْبُد الْمَلَائِكَة وَهِيَ بَنَات اللَّه . " مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم وَلَا لِآبَائِهِمْ " [ الْكَهْف : 5 ] الَّذِينَ أَعْظَمُوا فِرَاقهمْ وَعَيْب دِينهمْ . " كَبُرَتْ كَلِمَة تَخْرُج مِنْ أَفْوَاههمْ " [ الْكَهْف : 5 ] أَيْ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . " إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا . فَلَعَلَّك بَاخِع نَفْسك عَلَى آثَارهمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيث أَسَفًا " [ الْكَهْف : 6 ] لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِين فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُوهُ مِنْهُمْ , أَيْ لَا تَفْعَل . قَالَ اِبْن هِشَام : " بَاخِع نَفْسك " مُهْلِك نَفْسك ; فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَة . قَالَ ذُو الرُّمَّة : أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِع الْوَجْد نَفْسَهُ بِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِر وَجَمْعهَا بَاخِعُونَ وَبَخَعَة . وَهَذَا الْبَيْت فِي قَصِيدَة لَهُ . وَقَوْل الْعَرَب : قَدْ بَخَعْت لَهُ نُصْحِي وَنَفْسِي , أَيْ جَهَدْت لَهُ . " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْض زِينَة لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهمْ أَحْسَن عَمَلًا " [ الْكَهْف : 7 ] قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَيْ أَيّهمْ أَتْبَع لِأَمْرِي وَأَعْمَل بِطَاعَتِي : " وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا " [ الْكَهْف : 8 ] أَيْ الْأَرْض , وَإِنَّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِل , وَإِنَّ الْمَرْجِع إِلَيَّ فَأَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ ; فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنك مَا تَرَى وَتَسْمَع فِيهَا . قَالَ اِبْن هِشَام : الصَّعِيد وَجْه الْأَرْض , وَجَمْعه صُعُد . قَالَ ذُو الرُّمَّة يَصِف ظَبْيًا صَغِيرًا : كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيد بِهِ دَبَّابَة فِي عِظَام الرَّأْس خُرْطُوم وَهَذَا الْبَيْت فِي قَصِيدَة لَهُ . وَالصَّعِيد أَيْضًا : الطَّرِيق , وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث : ( إِيَّاكُمْ وَالْقُعُود عَلَى الصُّعُدَات ) يُرِيد الطُّرُق . وَالْجُرُز : الْأَرْض الَّتِي لَا تُنْبِت شَيْئًا , وَجَمْعهَا أَجْرَاز . وَيُقَال : سَنَة جُرُز وَسُنُونَ أَجْرَاز ; وَهِيَ الَّتِي لَا يَكُون فِيهَا مَطَر . وَتَكُون فِيهَا جُدُوبَة وَيُبْس وَشِدَّة . قَالَ ذُو الرُّمَّة يَصِف إِبِلًا : طَوَى النَّحْز وَالْأَجْرَاز مَا فِي بُطُونهَا فَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوع الْجَرَاشِع,,,, تفسير القرطبي

قال ابن كثير:

فَقَالَ تَعَالَى وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا أَيْ وَإِنَّا لَمُصَيِّرُوهَا بَعْد الزِّينَة إِلَى الْخَرَاب وَالدَّمَار فَنَجْعَل كُلّ شَيْء عَلَيْهَا هَالِكًا صَعِيدًا جُرُزًا لَا يُنْبِت وَلَا يُنْتَفَع بِهِ كَمَا قَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا " يَقُول يُهْلِك كُلّ شَيْء عَلَيْهَا وَيُبِيد وَقَالَ قَتَادَة : الصَّعِيد الْأَرْض الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَر وَلَا نَبَات وَقَالَ اِبْن زَيْد : الصَّعِيد الْأَرْض الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْء
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوق الْمَاء إِلَى الْأَرْض الْجُرُز فَنُخْرِج بِهِ زَرْعًا تَأْكُل مِنْهُ أَنْعَامهمْ وَأَنْفُسهمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ " وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا يَعْنِي الْأَرْض وَأَنَّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَبَائِد وَأَنَّ الْمَرْجِع لَإِلَى اللَّه فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنك مَا تَسْمَع وَتَرَى .

الأيـــــــات من 9 الى 26

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا

هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا

إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا

إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا



تفسير القرطبي والجلالين : وماكان فيه من توضيح للمعاني(قبل الدخول في القصة )

القرطبي:

بعد ماتقدم اِسْتَقْبَلَ قِصَّة الْخَبَر فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْن الْفِتْيَة فَقَالَ : " أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَاب الْكَهْف وَالرَّقِيم كَانُوا مِنْ آيَاتنَا عَجَبًا " [ الْكَهْف : 9 ] أَيْ قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَاد مِنْ حُجَّتِي مَا هُوَ أَعْجَب مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ اِبْن هِشَام : وَالرَّقِيم الْكِتَاب الَّذِي رُقِمَ بِخَبَرِهِمْ , وَجَمْعه رُقُم . قَالَ الْعَجَّاج : وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَف الْمُرَقَّم وَهَذَا الْبَيْت فِي أُرْجُوزَة لَهُ .

قال الجيلالين في تفسيره: وَالرَّقِيم" اللَّوْح الْمَكْتُوب فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابهمْ

إذْ أَوَى الْفِتْيَة إلَى الْكَهْف" جَمْع فَتًى وَهُوَ الشَّابّ الْكَامِل خَائِفِينَ عَلَى إيمَانهمْ مِنْ قَوْمهمْ الْكُفَّار "فَقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْك" مِنْ قِبَلك "رَحْمَة وَهَيِّئْ" أَصْلِحْ "لَنَا مِنْ أَمْرنَا رَشَدًا" هِدَايَة

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانهمْ" أَيْ أَنَمْنَاهُمْ "فِي الْكَهْف سِنِينَ عَدَدًا" مَعْدُودَة

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ" أَيْقَظْنَاهُمْ "لِنَعْلَم" عِلْم مُشَاهَدَة "أَيّ الْحِزْبَيْنِ" الْفَرِيقَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مُدَّة لُبْثهمْ "أَحْصَى" أَفْعَل بِمَعْنَى أَضْبَط "لِمَا لَبِثُوا" لِلُبْثِهِمْ مُتَعَلِّق بِمَا بَعْده "أَمَدًا" غَايَة

"نَحْنُ نَقُصّ" نَقْرَأ "عَلَيْك نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ" بِالصِّدْقِ

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبهمْ" قَوَّيْنَاهَا عَلَى قَوْل الْحَقّ "إذْ قَامُوا" بَيْن يَدَيْ مَلِكهمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ "فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونه" أَيْ غَيْره "إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا" أَيْ قَوْلًا ذَا شَطَط أَيْ إفْرَاط فِي الْكُفْر إنْ دَعَوْنَا إلَهًا غَيْر اللَّه فَرْضًا...

نعود لما فسره القرطبي:

لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونه: أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم .
قَالَ اِبْن هِشَام : وَالشَّطَط الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَة الْحَقّ .

. قَالَ اِبْن إِسْحَاق : " هَؤُلَاءِ قَوْمنَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونه آلِهَة لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن " [ الْكَهْف : 15 ] .
أَيْ بِحُجَّةٍ بَالِغَة . " فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا .

وَإِذْ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّه فَأْوُوا إِلَى الْكَهْف يَنْشُر لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَته وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ مِرْفَقًا .

بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْفَاء وَبِالْعَكْسِ مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ غَدَاء وَعِشَاء


وَتَرَى الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَر عَنْ كَهْفهمْ ذَات الْيَمِين وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضهُمْ ذَات الشِّمَال وَهُمْ فِي فَجْوَة مِنْهُ " [ الْكَهْف : 17 ] .
: تَزَاوَر تَمِيل ; وَهُوَ مِنْ الزَّوْر .
. و " تَقْرِضهُمْ " تُجَاوِزهُمْ وَتَتْرُكهُمْ عَنْ شِمَالهَا .
. وَالْفَجْوَة : السَّعَة , وَجَمْعهَا الْفِجَاء .

ذَلِكَ مِنْ آيَات اللَّه " أَيْ فِي الْحُجَّة عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورهمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِمَّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك عَنْهُمْ فِي صِدْق نُبُوَّتك بِتَحْقِيقِ الْخَبَر عَنْهُمْ . "

وَتَحْسَبهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود وَنُقَلِّبُهُمْ ذَات الْيَمِين وَذَات الشِّمَال وَكَلْبهمْ بَاسِط ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ " [ الْكَهْف : 18 ]
: الْوَصِيد الْبَاب . وَالْوَصِيد أَيْضًا الْفِنَاء , وَجَمْعه وَصَائِد وَوُصُد وَوُصْدَان .

" لَوْ اِطَّلَعْت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْت مِنْهُمْ فِرَارًا - إِلَى قَوْله - الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرهمْ " [ الْكَهْف : 21 ] أَهْل السُّلْطَان وَالْمُلْك مِنْهُمْ . " لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا . سَيَقُولُونَ " [ الْكَهْف : 22 ] يَعْنِي أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ . " ثَلَاثَة رَابِعهمْ كَلْبهمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة سَادِسهمْ كَلْبهمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنهمْ كَلْبهمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمهُمْ إِلَّا قَلِيل فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ " أَيْ لَا تُكَابِرهُمْ . " إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا " [ الْكَهْف : 22 ] فَإِنَّهُمْ لَا عِلْم لَهُمْ بِهِمْ .

" وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِل ذَلِكَ غَدًا . إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه وَاذْكُرْ رَبّك إِذَا نَسِيت وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِينِي رَبِّي لِأَقْرَب مِنْ هَذَا رَشَدًا " [ الْكَهْف : 24 ] أَيْ لَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هَذَا إِنِّي مُخْبِركُمْ غَدًا , وَاسْتَثْنِ مَشِيئَة اللَّه , وَاذْكُرْ رَبّك إِذَا نَسِيت وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِينِي رَبِّي لِخَبَرِ مَا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا , فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِع فِي ذَلِكَ . (جواب السؤال)
" وَلَبِثُوا فِي كَهْفهمْ ثَلَاثمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا " [ الْكَهْف : 25 ] أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ . " قُلْ اللَّه أَعْلَم بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونه مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِك فِي حُكْمه أَحَدًا " [ الْكَهْف : 26 ] أَيْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا سَأَلُوك عَنْهُ .

انتهى ...



تفسير لبعض الايات في هذه القصة:

أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم..... " (2)

جاء في تفسير الكشاف للزمخشري أن الرقيم :" اسم لكلبهم. وقيل لوح رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، وقيل إن الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل، وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل وقيل قريتهم" (3) . وجاء في "التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور :"والرقيم: فعيل بمعنى مفعول، من الرقم وهو الكتابة. فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم".(4) وأورد الماوردي في "النكت والعيون" سبعة أقوال في الرقيم(5) . وجاء في تفسير البغوي :"قال سعيد بن جبير :هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصصهم -وهذا أظهر الأقاويل- ثم وضعوه على باب الكهف، وكان اللوح من رصاص، وقيل من حجارة، فعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم، أي المكتوب، والرّقم: الكتابة" (6)

واضح مما سبق أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى الرقيم شيء. ثم إن تعدد الأقوال في المسألة يدل على عدم وجود نقل نطمئن إليه. وعليه يكون من المناسب أن نرجع إلى اللغة لفهم معنى "الرقيم". والمعنى اللغوي يؤيد ما ذهب إليه الجماهير بأن الرقيم بمعنى المرقوم أي المكتوب. فهم أصحاب الشيء المكتوب. ولا يهمنا إن كانت الكتابة على حجر، أو على لوح من رصاص، كما جاء في بعض التفاسير. وواضح أن القرآن يريد أن يقول لنا إن هناك شيئاً مكتوبا، وإن هناك من كتب كتابة بقيت من أجل تحقيق هدف. وهنا يثور سؤال: هل أصحاب الكهف هم أنفسهم أصحاب الرقيم؟ الجماهير من المفسرين يقولون: نعم. وهناك من يقول بل إنّ أصحاب الكهف هم غير أصحاب الرقيم. لأن أصحاب الكهف ناموا، والذين كتبوا وخلدوا الحدث هم أناس آخرون. والآية الكريمة تحتمل كما هو واضح.

الناظر فيما تركه الأقدمون من آثار يجد أنهم كانوا يخلدون الأحداث بالكتابة نقشاً على الحجارة المعدّة خصيصاً لذلك، كما فعل الفراعنة وغيرهم، وأحياناً ينقشون ذلك في الأبنية، وفوق الأبواب. وليس من المفيد هنا أن نسعى إلى معرفة الشيء الذي كتب عليه. بل ربما تكون الفائدة في معرفة مضمون الكتابة، ويبدو هذا الآن صعبا، إلا أن تأتي الأبحاث الأثرية في المستقبل بما يكشف لنا بعض أسرار هذه الكتابة، وليس هذا ببعيد، فقد عهدنا في هذا العصر أن نفاجأ بين الحين والحين بالاكتشافات التاريخية التي تُجلي لنا ما يسمى "بالإعجاز التاريخي للقرآن الكريم". وما يكتب في هذه الأيام حول الاكتشافات الأثرية في الأحقاف من بلاد حضرموت يصلح مثالاً على ذلك، حيث تم اكتشاف أجزاء من "إرم" ذات العماد، وجاءت الاكتشافات مؤيدة لما ورد في القرآن الكريم.

إذا كانت معرفة مضمون الكتابة بعيدة المنال إلى الآن، فيجدر بنا أن نتدبر إشارة القرآن الكريم إلى الشيء المكتوب الذي له علاقة بأصحاب الكهف، ويشكل أهمية إلى درجة أن يكون له أصحاب :"أصحاب الرقيم". فما هو هذا الشيء المكتوب؟ ولماذا كتب؟

"فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً"(7)

(سنين عددا):أي سنين معدودة، أو سنين ذوات عدد. فهل يراد بوصف السنين أنها معدودة التقليل من عددها أم التكثير؟ هناك من العلماء من يقول بالاحتمالين، وهناك من يقول إنه للتكثير، وهناك من يقول إنه للتقليل. ونحن هنا لا نستبعد أن يكون المقصود أن السنين ال (309) كانت تعد من قبل الناس سنة سنة وهم ينتظرون عودة الفتية الذين غابوا في كهفهم المجهول.

"ثمّ بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً"

نلخص فهمنا لهذه الآية في النقاط الآتية:

ورد في بعض كتب التفسير أن الفتية كانوا ينتمون إلى أسر حاكمة لها شأن في المدينة، وهذا الأمر يجعل الحدث مهما، ومتداولاً بين الناس، وعلى أية حال يبقى هذا التفسير مجرد احتمال ولا يقوم على دليل نقلي صحيح. وأهمية هذا الحدث قد يدفع الناس إلى انتظار عودتهم، وإجراء عد للسنين التي غابوها في مكان مجهول.

الاحتمال الأقوى أن نقول إن غيبتهم كانت لحكمة أرادها الله، لذا لا يبعد أن تكون هناك نبوءة لنبي كان الفتية من اتباعه، وتقول هذه النبوءة: إنّ الفتية الذين غابوا في مكان مجهول هم نائمون في كهف، وسيبعثهم الله بعد أن يناموا (309) سنوات. ومعلوم أن النبوءات تحتاج أحياناً إلى تأويل صحيح، أو تكون صريحة لا تحتاج إلى تأويل. فقول يوسف عليه السلام:" يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"(Cool هي نبوءة تحتاج إلى تأويل، وكذلك رؤيا الملك الذي رأى "سبع بقرات سمان يأكلهن سبعٌ عجاف"(9) وكذلك نبوءة قيام إسرائيل وزوالها في القرآن الكريم، (10) فهي محتملة لوجوه في التفسير، في حين نجد أن قول الله تعالى في سورة الروم :"غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" (11) لاتحتاج إلى تأويل، فيما يتعلق بانتصار الروم بعد سنوات لا تتعدى التسع.

إذن لا يبعد أن تكون النبوءة تحتاج إلى تأويل، ولذلك وجد من الناس من يقول بأنهم سيلبثون في الكهف 309 سنة، ووجد من يقول بأقوال أخرى متعددة. ومهما تعددت الأقوال فإنها تبقى في دائرة قولين اثنين فقط؛ القول الذي يذكر العدد الصحيح 309، والأقوال الأخرى التي يجمعها وإن كثرت مجانبتها للصواب. وعند انبعاث الفتية من نومهم تبين أي الفريقين أدق إحصاءً لمدة لبثهم، أي أضبط عداً. وهذا يعني أنهم كانوا قد بدأوا العد من بداية اختفاء الفتية. وهناك احتمال أن تكون النبوءة جاءت بعد اختفاء الفتية بزمن، وجاءت صريحة بأن مدة لبثهم هي 309 سنة، ومن ثم كان الاختلاف في البداية، فلما بُعث الفتية تبين صحة قول الفريق الذي كان قد ضبط زمن الغياب. وعلى أساس فهمنا هذا يكون لفترة غياب الفتية فائدة للمجتمع المعاصر وما بعده. فما هي هذه الفائدة؟ قد نجد الجواب فيما سيأتي إن شاء الله.

الذي حملنا على التفسير السابق هو ظاهر النص الكريم :" ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً" :أي ثم بعثناهم ليتبين أي الحزبين أحصى. على اعتبار أن "أحصى" هي فعل ماض، أو ليتبين أي الحزبين أتقن إحصاءً أي عدا، على اعتبار أن "أحصى" اسم تفضيل. ومن هنا لا وجه لافتراض أنّ القولين كانا بعد ظهور أمرهم وتجلي خارقتهم. لأن البعث كان السبب للتبيّن وليس للاختلاف.


"لنعلم أي الحزبين" :يتعلق العلم الإلهي بالأشياء قبل وجودها، وبالأشياء بعد وجودها. ونسمي العلم بالأشياء قبل وجودها (قضاءً). ونسمي العلم بالأشياء بعد وجودها (قدراً). ومن هنا يتبين أنّ المقصود ب "لنعلم" :علم الوجود، أي ليظهر على أرض الواقع أي الحزبين أدق إحصاءً لمدة لبثهم المختلف فيها قبل بعثهم فما الحكمة من اختلاف الناس في مدة لبث أصحاب الكهف؟!

"وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم، قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" (12)

ذهب الكثير من المفسرين إلى أن قول أصحاب الكهف:"لبثنا يوماً أو بعض يوم" هو دليل على عدم وجود متغيرات في أجسامهم وملامحهم. إلا أن النص قد يشير إلى خلاف ذلك، لأنه حصل تساؤل بينهم، وهذا التساؤل بدأ بملاحظةٍ من أحدهم لشيء ما دفعه ذلك إلى أن يسألهم :"قال قائل منهم كم لبثتم" وكان الجواب السريع وقبل التحقيق "لبثنا يوماً أو بعض يوم" ولا ننسى أنهم في داخل كهف. وهذا يعني أن الإضاءة قد تكون خافتة لا تسمح بالرؤية الكاملة. ولكن الجوع الشديد، وأموراً أخرى لا بد أنهم لاحظوها بعد التساؤل وتدقيق النظر، جعلهم في حيرة وبلبلة تعجز عن تفسير هذه الأمور التي لاحظوها ولذلك قالوا :"ربكم أعلم بما لبثتم" ودفعهم الجوع الشديد إلى تجاوز هذا الموقف، ولا شك أن الحاجات العضوية وإلحاحاتها كثيراً ما تجعل الإنسان يذهل عن ملاحظة واقعه، بل لا نجد عندها لدى الإنسان أي رغبة لمناقشة أية أمور لا تلبي هذه الحاجة :"فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً" . ومن البدهي أن الحاجة العضوية لا تضغط إلى درجة تجاوز الحاجة إلى الأمن والسلامة :"وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا" . ومن الملحوظ أن الفتية لم ينسوا إيمانهم ورسالتهم، حيث يظهر تماماً تمسكهم والتزامهم بشرع الله :"أيها أزكى طعاماً إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذاً أبداً" (13) ، فهم يصرون على الطعام الحلال، ويعتبرون العودة إلى الشرك ضلالاً لا فلاح بعده.

"وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها" (14) :

كان من حكمة الله تعالى أن ينام أصحاب الكهف، ثم يبعثوا ليعثر الناس عليهم، فيكون هذا الحدث دليلاً على صحة عقيدة هؤلاء الفتية، الذين يؤمنون بالبعث، فلا يرتاب أحد بعد ذلك بعقيدة اليوم الآخر، والتي هي ركن أساسي في العقيدة الدينية الحقة. وهذا المعنى هو المتبادر من الآية الكريمة، وهو ما عليه أهل التفسير. وفي رأينا أنه لا مانع من أن يكون المقصود بـ "ليعلموا أن وعد الله حق" أي الوعد الذي جاءت به النبوءة التي تقول ببعث الفتية بعد نوم طويل. تماماً كما اتضح أن وعد الله حق بعد فتح مكة، أو بعد انتصار الروم على الفرس. وكما سيتضح أن وعد الله حق عند ظهور المهدي المنتظر، وكذلك عند ظهور العلامات الكبرى ليوم القيامة.


وعليه يكون قد تبين للناس عند العثور على أصحاب الكهف:

أ - أن النبوءة المتعلقة بهم وبتفصيلات أحوالهم هي حق.

ب - أن بعثهم بعد حالة الرقود المشابهة للموت هو دليل ملموس ينفي كل ريب في حقيقة أن الله يبعث الناس بعد موتهم ليكون الحساب.

قد يشكل على البعض أن بعث أصحاب الكهف لم يكن من موت بل كان من نوم، ومن هنا تكون دلالته على البعد الأخروي أضعف من دلالة بعث العزير بعد موته(15) . ولدفع مثل هذا الإشكال نقول: إن الإيمان بالله الخالق وصفاته الكاملة يجعلنا نسلم بداهة بقدرته على البعث والنشور. إلا أن بعض العقول البشرية -وهذا شئ عجيب لا نفهمه نحن- يذهلها واقع المحسوسات عن إدراك هذه الحقيقة، بل تجعل من قوانين الطبيعة آلهة، ولا تتصور خرق هذه القوانين بصورة من الصور. ومثل هذه العقول قد تحتاج إلى صدمة حتى تتعلم أن المألوفات هي مجرد مخلوقات طارئة. ولا شك أن نوم مجموعة من الناس مدة (309) سنوات هو خرق للعادة، وتحطيم لصنم المألوفات، لأن المحافظة على الحياة في مستوياتها الدنيا لمدة متطاولة هو خروج عن قانون الحياة. ولا شك أن عودة الحياة كاملة بعد هذه المقاربة للموت لهو البعث في أجلى صوره. فالدخول في حالة الرقود هو معجزة، والخروج منها هو معجزة أخرى. ونحن نعرف أن الإيمان باليوم الآخر يعني أننا نؤمن ببعث الناس بعد موتهم، وأن قانون ما بعد البعث يختلف عن قانون ما قبل الموت. فالفناء من قوانين الدنيا، يقابله الخلود والذي هو من قوانين الآخرة. وقصة أهل الكهف تجلت فيها حقيقة البعث ومخالفة القانون الدنيوي. وعليه لا يكون بعث العزير عليه السلام من موته وكذلك بعث حماره ممثلاً لحقائق الآخرة بالكامل. أما إذا أضفنا إلى حقيقة بعثه حقيقة أن طعامه وشرابه لم يتغيرا على مدى قرن من الزمن، عندها تكون صورة ما حصل ممثلة لحقائق البعث الأخروي، لأن عدم تغير الطعام والشراب يعني أن الزمن قد توقف، فلم يعد يؤثر في الأشياء مرور السنين المتطاولة، وهذا من أجلى حقائق وقوانين عالم الآخرة.

"إذ يتنازعون بينهم أمرهم، فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم" :

بعد أن تحققت الحكمة من الحدث بأكمله، عاد قانون الحياة ليعمل عمله. ويبدو أن الفتية بأكملهم قد عادوا إلى حالةٍ التبست على الناس؛ أهم نيام؟! أم أنهم قد ماتوا؟! فإذا كانوا في حالة نوم فلا يجوز عندها دفنهم، وإذا كانوا قد ماتوا فلا بد من دفنهم. فاحتاج هذا الأمر الخطير إلى جمع الناس والتشاور، وقد يكون هذا هو السر في تقديم كلمة "بينهم" على كلمة "أمرهم" في قوله تعالى :"إذ يتنازعون بينهم أمرهم." وكان أن توصل الناس إلى حل، هو صيغة مناسبة لعدم اليقين الحاصل في شأن الفتية. هذه الصيغة ليست بقبر، وليست بكهف مفتوح الباب. وكان الإجماع أن يكون بنياناً قائماً على الكهف، ونظراً لجلالة الحدث، ودلالته العقائدية، رجح قول من رأى أن يكون هذا البنيان مسجداً. "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً".

أما كيف عرفنا أنهم قد احتاروا في تشخيص حالة أهل الكهف أموتى هم أم نيام؟! فإن ذلك يفهم من قوله تعالى :"فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم" لأن هذه العبارة توحي بأنهم لم يجزموا بأمر، وعدم الجزم هذا جعلهم يختارون صيغة البناء مفوضين أمرهم إلى الله :"ربهم أعلم بهم" .


"سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب. ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم. قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل...."(16)

بهذا نكون قد عرفنا عددهم على وجه التقريب. فالأقوال كلها تحصر عددهم بين الثلاثة والسبعة.وقد رجح الكثير من العلماء أنّ عددهم هو سبعة، واستفادوا ذلك من إشارة الفصل بين الأقوال عندما قال تعالى :"رجماً بالغيب" ثم قال :"ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم.". ويبقى الأمر في دائرة الإستئناس. وأكثر الروايات التاريخية تذكر أن عددهم سبعة. وواضح أن قولاً من الأقوال أصاب الحقيقة لقوله تعالى :"ما يعلمهم إلا قليل".

كان يمكن إعطاء عددهم في كلمات مختصرة. ويبدو أن هذا لا يفيد، فما الفرق بين أن يكون عددهم خمسة أو سبعة؟! إن ميل الإنسان الشديد إلى المعرفة التفصيلية، وشوقه المستمر إلى استجلاء الحقائق، يجعله يبحث عن مثل هذه التفصيلات، وقد أشارت الآية إلى هذه الحقيقة من حقائق الفطرة الإنسانية :"سيقولون ثلاثة... ويقولون..." وفي الوقت الذي لا نملك فيه الحقيقة، تجدنا نغامر بتبني الأقوال غير القائمة على دليل، أي "رجماً بالغيب" . ومن يقرأ الروايات التاريخية يجد اهتماماً شديداً بتحديد عددهم، وتحديد موقع الكهف. بل نجد لدى الإنسان المحاولات الدائمة للبحث عن التفاصيل، وكأنه يريد أن يقف أمام الحقيقة التي لا يحجبها شيء من الأشياء. وفي الوقت الذي لا يستطيع الإنسان فيه أن يصل إلى الحقيقة، نجده يرتضي عند عجزه بقول يركن إليه، ويكتفي فيه ببعض القرائن، حتى وإن لم تكن كافية. وقد يصل به الأمر إلى أن يقول "قيل كذا" ثم يتحول الأمر إلى "هو كذا" رجماً بالغيب.

فالآية التي نحن بصددها تكشف لنا عن حقيقة من حقائق الفطرة البشرية. وما كان أمراً فطرياً فلا بد منه، ولا بد من حكمة للخالق في ذلك. ولكن قد تحتاج الفطرة إلى توجيه وتهذيب. فحب الذات مثلاً هو أمر فطري وضروري لاستمرار الحياة وبناء الحضارات، ولكنه يحتاج إلى ضبط وتهذيب، حتى لا يتحول إلى أنانية، وحتى لا يؤدي إلى الظلم والعدوان. وكذلك لا يجوز أن يدفعنا شوقنا إلى الحقيقة والمعرفة إلى تبني الأمور غير القائمة على دليل. وإذا صح لنا أن نقبل بدليل هو غلبة ظن، فهل يجوز لنا أن نبني معارفنا على مجرد الخَرص الذي لا أساس له، ونقبل بعالم الرجم بالغيب؟!

واضح أن عدد أصحاب الكهف عند الناس هو عدد فردي، فهم :ثلاثة أو خمسة، أو سبعة. ولا ندري أساساً لهذا. ولكن حتى مثل هذه الجزئية تهم الناس. وبما أن الحادثة هي من الخوارق، وبما أن هذه الخارقة شملت الكلب الذي كان يصاحب الفتية، فلا غضاضة أن يذكر الكلب عند التعرض لعدد الفتية. بل إن ذكره يعتبر إشارة قوية إلى أن الخارقة قد شملته أيضاً.

"قل ربي أعلم بعدتهم " بعد أن بينت الآية الميل الفطري لدى الإنسان للمعرفة والتطلع حتى إلى الجزئيات التي لا يترتب على معرفتها فائدة عمليّة، أحالت الآية معرفة عددهم إلى الله تعالى، بمعنى أن الأولى هو الاهتمام بما هو نافع، والجزم بوجهٍ دون سواه غير متيسر، ثم إن العدد هنا لا يترتب عليه شيء. في حين أن عدد سنوات لبثهم لا بد أن يترتب عليه فائدة. وعلينا أن نوظف ميل الإنسان إلى المعرفة فيما هو نافع.

"فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً" : في مثل هذه الأمور لا تصح المجادلة إلا إذا كانت قائمة على دليل ظاهر، وإلا تحول طلب العلم إلى مماراة. ولا بأس من مناقشة الأمر نقاشاً سريعاً غير متعمق، لأنه لا جدوى من التعمق في معالجة مثل هذه المسائل.

"ولا تستفت فيهم منهم أحدا" :طالما أن الفتوى تُطلب من العالم بها، الملم بحقائقها، فإنه لا يصلح في قضية أهل الكهف أن نطلب المعرفة التاريخية من مشركي العرب، أو من أهل الكتاب، أنهم جميعاً لا يملكون الحقيقة. وعلى المسلم أن يلتمس ذلك في القرآن فقط. وقوله تعالى :"ولا تستفت فيهم" أي في أصحاب الكهف، وفي أي شأن من شؤونهم، أو خبر من أخبارهم. أما قوله تعالى :"ولا تستفت فيهم منهم أحداً" أي لا تسأل أياً منهم في أي أمر من أمور أصحاب الكهف والرقيم. ومن هنا لا يليق بنا أن نركن إلى شيء مما تناقله الناس في مسألة أهل الكهف، لأنهم لا يملكون الحقيقة، بل هو من قبيل الرجم بالغيب. وبذلك يتضح لك أنّ هذه المسألة يجب أن تؤخذ خالصة من القرآن الكريم. وحتى لا نذهب بعيداً عن الحقيقة، يجدر بنا أن نستفتي القرآن الكريم. وهذا يشير إلى أن بإمكاننا أن ننهل الشيء الكثير من هذه القصة ذات الكلمات المعدودة.

"ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا" : في الوقت الذي لم يبت فيه القرآن الكريم بعدد أصحاب الكهف، وعلى الرغم من وجود الاختلاف، فقد وجدناه يصرح بالمدة الزمنية التي لبثها أهل الكهف، ولم يكتف بذكر المئات السنين، بل اهتم بالزيادة القليلة، لتكون المعرفة بذلك دقيقة. ولا شك أن معرفة هذه المدة أمر ضروري حتى يظهر الإعجاز في خرق قانون الطبيعة، بل إن القصة تفقد جوهرها عندما لا نذكر مدة لبثهم.

لاحظ بعض العلماء أن أل300 سنة شمسية تعادل 309 سنة قمرية. فذهبوا إلى القول إن الزيادة والتي هي 9 سنوات، هي الفرق بين الشمسي والقمري. واستندوا في قولهم هذا إلى ما ورد عند أهل الكتاب من أن مدة لبث أصحاب الكهف كانت "300" سنة شمسية. ويُرد العلامة جمال الدين القاسمي في تفسيره المسمى "محاسن التأويل" هذا الرأي فيقول :"دعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام، واعتبار السنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب، واعتبار السنة القمرية، بياناً للتفاوت بينهما -إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين- دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية. فلذلك قال: "وازدادوا تسعاً" لنقف على تحديد ما عنوه، ومن أين ثبت ذلك؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم. وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية أو بأي منها قالوا:فقد رد عليهم بقوله :"قل الله أعلم بما لبثوا" أي بمقدار لبثهم"(17)

يقول الطباطبائي في الميزان :"على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة وتسعة ولا ثلاثمائة" (18) فهل مجرد التوافق الحسابي يجعلنا نقول بأن لبثهم كان 300 سنة شمسية وأن الزيادة هي الفرق؟! ثم من أين لنا أنّ أهل الكتاب يقولون بالثلاثمائة سنة شمسية، وقد ثبت أنهم يقولون بغير ذلك. وعليه فالأولى أن نأخذ الآية على ظاهرها ونقول إن مدة لبثهم كانت 309 سنة، وقد تكون شمسية، وقد تكون قمرية. وإن كنا نميل إلى أنها شمسية. فقد لاحظنا من خلال الاستقراء أن القرآن الكريم يستخدم كلمة عام للسنة القمرية. وعليه فلو كانت السنوات قمرية لقال "وازدادوا تسعةً" وليس "تسعاً". لأننا نقول :"تسعاً من السنين" و"تسعةً من الأعوام" وتوضيحاً للفكرة إليك هذه الفقرة من كتابنا "إرهاصات الإعجاز العددي في القرآن الكريم" :" إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أنّ هناك آيات تدل بوضوح على أن كلمة (عام) تطلق على السنة القمرية، مثل قوله تعالى في سورة التوبة:"فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "ومعلوم أن الآية تتحدث عن الحج وهو مرتبط بالسنة القمرية، وكذلك في قوله تعالى :"إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما" ومعلوم أن الآية تتحدث عن تلاعب المشركين بترتيب الأشهر الحرم وهي أشهر في السنة القمرية.في المقابل لا توجد في القرآن كلمة (سنة ) تدل بوضوح على السنة القمرية، ولا توجد كلمة (عام) تدل بوضوح على السنة الشمسية. ولا يعني هذا أن مفهوم السنة لا يشمل السنة القمرية. والملحوظ أن القرآن الكريم عندما يُكَثِّر يستعمل كلمة (سنة ) كقوله تعالى :"ولبثت فينا من عمرك سنين" . وقوله تعالى:" وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة مما تعدُّون" .ومعلوم أن السنة الشمسية أطول من السنة القمرية. وفي الآية التي نحن بصدد فهمها جاءت أل(1000)سنة لتدل على طول المدة التي لبثها نوح عليه السلام. وجاءت أل(50)عاما لتقلل من المستثنى. وعلى أية حال ليس بإمكاننا أن نعكس المفهوم فنجعل (السنة) تدل على القمرية و(العام) يدل على الشمسية. وبما أن هذه الآية ذكرت السنة والعام، فيرجح أن تكون السنة شمسية والعام قمرياً. (19)

وعليه سنتبنى في بحثنا هذا أن مدة لبث أصحاب الكهف هي 309 سنوات شمسية.

"قل الله اعلم بما لبثوا." أي أن الله تعالى أعلم بالزمن الذي لبثوه وهو 309 سنة، فهو أعلم به من حيث المقدار، ومن حيث الحقائق والأسرار. وهذا يقتضي أن نبحث عن أسرار هذا العدد. فلم يكن لبث أصحاب الكهف هذه المدة على سبيل المصادفة. ولا ننسى أن هذا اللبث هو من تقدير العزيز الحكيم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:31 pm

القصة بإيجاز:



في زمان ومكان غير معروفين لنا الآن، كانت توجد قرية مشركة. ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم. عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم. ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء. ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.

في هذه المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء. ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد.

لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقواهم. إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون.

عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم. خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسة، للكهف الضيق. تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشا. زهدوا في الأسرّية الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفا ضيقا مظلما.

إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه. فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه. ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها.

استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه. وهنا حدثت معجزة إلاهية. لقد نام الفتية ثلاثمئة وتسع سنوات. وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار. وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجاسدهم. فكان الناظر إليهم يحس بالرعب. يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم.

بعد هذه المئين الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى. استيقضوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم.

فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت.

خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها. لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود. استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة. وبالطبع، لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صبعا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها.

لقد آمن المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح. لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين. لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية. لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم. وها هم قد عادوا. فمن حق أهل القرية الفرح. وذهبوا لرؤيتهم.

وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقي ملموس أمامهم. أخذ الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت. فاختلف أهل القرية. فمن من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية.

لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم. فهل كانوا قبل زمن عيسى عليه السلام، أم كانوا بعده. هل آمنوا بربهم من من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان. هل كانوا في بلدة من بلاد الروم، أم في فلسطين. هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم. كل هذه أمور مجهولة. إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله. فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر. فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:32 pm


الأعجاز في القصة وماقبلها :

أهم الإشارات الطبية والعلمية المستنبطة من قصة آهل الكهف


أولاً:الإشارات العلمية العامة

1- الأسلوب العلمي البليغ في بيان ملخص القصة أولاً ثم التفاصيل ثانيا :

ان الآيات الأربع الأولى من السورة (9-12)والتي تبدأ بها القصة ذكرت مجمل وخلاصة الأحداث "الموجز"ثم ذكرت التفاصيل في الآيات الأربع عشر التالية (13-26)بدلي ذكر مدة رقودهم في الموجز بقوله تعالى(فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا)الكهف/11،ثم بين هذه المدة بعد ذلك بالتفصيل في قوله تعالى (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف/25

2- إظهار آيات الله وعجائبه في مخلوقاته:

فالله تعالى آمر في التفكير بها حيث إنها لا تقل عجبا عن آيات أصحاب الكهف والرقيم بالرغم من كونها خارقة لقوله تعالى (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا )الكهف /9 فان من صفحات هذا الكون من العجائب ما يفوق قصتهم وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية ما نصه:أي ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا فان خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير القمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى وانه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شي اعجب من أخبار أصحاب الكهف (ابن كثير،تفسير القران العظيم ،ج71/3-72دار الجيل –بيروت 1988)

ثانيا :الإشارات الطبية

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا


[/color]

حتى ينام أصحاب الكهف بصورة هادئة وصحيحة هذه المدة الطويلة من دون تعرضهم للأذى
والضرر وحتى لا يكون هذا المكان موحشا ويصبح مناسبا لمعيشتهم فقد وفر لهم الباري عز وجل

الأسباب التالية :

تعطيل حاسة السمع:حيث إن الصوت الخارجي يوقظ النائم وذلك في قوله تعالى

(فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا)الكهف/11 والضرب هنا التعطيل والمنع أي عطلنا

حاسة السمع عندهم مؤقتا والموجودة في الأذن والمرتبطة بالعصب القحفي الثامن .ذلك إن حاسة

السمع في الإذن هي الحاسة الوحيدة التي تعمل بصورة مستمرة في كافة الظروف وتربط الإنسان

بمحيطة الخارجي .

2-تعطيل الجهاز المنشط الشبكي (ascending reticular activating system ) :-

الموجود في الجذع الدماغ والذي يرتبط بالعصب القحفي الثامن أيضا (فرع التوازن)حيث إن هذا العصب له قسمان :الأول مسؤول عن السمع والثاني مسؤول عن التوازن في الجسم داخليا وخارجيا ولذلك قال الباري عز وجل (فضربنا على آذانهم)ولم يقل (فضربنا على سمعهم )أي إن التعطيل حصل للقسمين معا وهذا الجهاز الهام مسؤول أيضا عن حالة اليقظة والوعي وتنشيط فعاليات أجهزة الجسم المختلفة والإحساس بالمحفزات جميعا وفي حالة تعطيلية أو تخديره يدخل الإنسان في النوم العميق وتقل جميع فعالياته الحيويه وحرارة جسمه كما في حالة السبات والانقطاع عن العالم الخارجي قال تعالى (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ) النبأ/8 والسبات هو النوم والراحه (والمسبوت)هو الميت أو المغشى عليه (راجع مختار الصحاح ص 214).فنتج عن ذلك ما يلي :

أ-المحافظة على أجهزتهم حية تعمل في الحد الأدنى من استهلاك الطاقة فتوقفت عقارب الزمن بالنسبة لهم داخل كهفهم إلا إنها بقيت دائرة خارجه (كالخلايا والانسجه التي تحافظ في درجات حرارة واطئة فتتوقف عن النمو وهي حية ).

ب-تعطيل المحفزات الداخلية التي توقظ النائم عادة بواسطة الجهاز المذكور اعلاه كالشعور بالألم أو الجوع أو العطش أو الأحلام المزعجة (الكوابيس).

3 -المحافظة على أجسامهم سليمة طبيا وصحيا وحمياتها داخليا وخارجيا والتي منها :

أ-التقليب المستمر لهم أثناء نومهم كما في قولة تعالى :-


(وَتَحْسَبُهُمْ أيقاظاً وَهُمْ رُقودٌ وَنُقلّبُهُمْ ذاتَ اليْمَين وذاتَ الشّمَالِ )الكهف/18 لئلا تآكل الأرض أجسادهم بحدوث تقرحات الفراش في جلودهم والجلطات في الأوعية الدموية والرئتين وهذا ما يوصي به الطب ألتأهيلي حديثا في معالجة المرضى فاقدي الوعي أو الذين لا يستطيعون الحركة بسبب الشلل وغيرة .

ب-تعرض أجسادهم وفناء الكهف لضياء الشمس بصورة متوازنة ومعتدلة في أول النهار وآخرة للمحافظة عليها منعاً من حصول الرطوبة والتعفن داخل الكهف في حالة كونه معتما وذلك في قولة تعالى (وَتَرَى الشَّمس إذا طَلَعتْ تَزاورُ عن كهْفِهمَ ذاتَ الْيَمين وإذا غرَبتْ تَفْرضُهُمْ ذاتَ الشِّمال )الكهف/17 والشمس ضرورية كما هو معلوم طبيا للتطهير أولا ولتقوية عظام الإنسان وأنسجته بتكوين فيتامين د(vitamin d) عن طريق الجلد ثانيا وغيرها من الفوائد ثالثا .

يقول القرطبي في تفسيره :وقيل( إذا غربت فتقرضهم ) أي يصيبهم يسير منها من قراضة الذهب والفضة أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها إصلاحا لأجسادهم فالآية في ذلك بان الله تعالى آواهم إلى الكهف هذه صفته لأعلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم والتأذي بحر أو برد (القرطبي ،الجامع لأحكام القران ،ج1 ص 369،دار الكتاب العربي –القاهرة 1967).

ج. وجود فتحة في سقف الكهف تصل فناءه بالخارج تساعد على تعريض الكهف إلى جو مثالي من التهوية ولإضاءة عن طريق تلك الفتحة ووجود الفجوة (وهي المتسع في المكان )في الكهف في قولة تعالى (وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُوَ الْمُهتْدى وَمَنْ يُضْلِلْ فلَنْ تَجِدْ لَهُ ولياَ مُرْشداً ) الكهف /17.

د. الحماية الخارجية بإلقاء الرهبة منهم وجعلهم في حالة غريبة جدا غير مألوفة لا هم بالموتى ولا بالإحياء (إذ يرهم الناظر كالأيقاظ يتقلبون ولا يستيقظون بحيث إن من يطلع عليهم يهرب هلعا من مشهدهم وكان لوجود الكلب في باب فناء الكهف دور في حمايتهم لقولة تعالى (وَكلْبُهُمْ باسِط ذِراعِيْهِ بالْوَصيدِ لَوْ اطَّلعْتَ عَلْيَهمْ لَوَلَيتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلمُلِئْتَ مِنْهُمً رُعْباَ )الكهف / 18. إضافة إلى تعطيل حاسة السمع لديهم كما ذكرنا أعلاه كحماية من الأصوات الخارجية.......



الأعجاز العددي مرتبط بالإعجاز البياني:

قد تقودنا معاني الآيات إلى اكتشاف معجزة عددية! وهذا ما نجده في قصة أصحاب الكهف، فجميعنا يعلم بأن أصحاب الكهف قد لبثوا في كهفهم 309 سنوات. وهذا بنص القرآن الكريم, يقول تعالى(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف: 25).

فالقصة تبدأ بقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً......) (الكهف: 9-13).

وتنتهي عند قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً* قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:25-26).

والسؤال: هل هنالك علاقة بين عدد السنوات التي لبثها أصحاب الكهف، وبين عدد كلمات النص القرآني؟ وبما أننا نستدلّ على الزمن بالكلمة فلا بد أن نبدأ وننتهي بكلمة تدل على زمن. وبما أننا نريد أن نعرف مدة ما (لبثوا) إذن فالسرّ يكمن في هذه الكلمة.

فلو تأملنا النص القرآني الكريم منذ بداية القصة وحتى نهايتها، فإننا نجد أن الإشارة القرآنية الزمنية تبدأ بكلمة (لبثوا) وتنتهي بالكلمة ذاتها، أي كلمة(لبثوا).

والعجيب جداً أننا إذا قمنا بعدّ الكلمات مع عد واو العطف كلمة مستقلة، من كلمة (لبثوا) الأولى وحتى كلمة (لبثوا) الأخيرة، فسوف نجد بالتمام والكمال 309 كلمات بعدد السنوات التي لبثها أصحاب الكهف!!!

وهذا هو النص القرآني لمن أحب التأكد من صدق هذه الحقيقة:

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً{10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً{11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا

لَبِثُوا*أَمَداً*نَحْنُ*نَقُصُّ*عَلَيْ كَ*نَبَأَهُم*بِالْحَقِّ*إِنَّه ُمْ*فِتْيَةٌ*آمَنُوا*10

بِرَبِّهِمْ*وَ*زِدْنَاهُمْ*هُد ًى*و*رَبَطْنَا*عَلَى*قُلُوبِهِ مْ*إِذْ*قَامُوا*20

فَقَالُوا*رَبُّنَا*رَبُّ*السَّ مَاوَاتِ*وَ*الْأَرْضِ*لَن*نَّد ْعُوَ*مِن*دُونِهِ*30

إِلَهاً*لَقَدْ*قُلْنَا*إِذاً*ش َطَطاً*هَؤُلَاء*قَوْمُنَا*اتَّ خَذُوا*مِن*دُونِهِ*40

آلِهَةً*لَّوْلَا*يَأْتُونَ*عَل َيْهِم*بِسُلْطَانٍ*بَيِّنٍ*فَم َنْ*أَظْلَمُ*مِمَّنِ*افْتَرَى* 50

عَلَى*اللَّهِ*كَذِباً*وَ*إِذِ* اعْتَزَلْتُمُوهُمْ*وَ*مَا*يَعْ بُدُونَ*إِلَّا*60

اللَّهَ*فَأْوُوا*إِلَى*الْكَهْ فِ*يَنشُرْ*لَكُمْ*رَبُّكُم*مِّ ن*رَّحمته*و*70

يُهَيِّئْ*لَكُم*مِّنْ*أَمْرِكُ م*مِّرْفَقاً*وَ*تَرَى*الشَّمْس َ*إِذَا*طَلَعَت*80

تَّزَاوَرُ*عَن*كَهْفِهِمْ*ذَات َ*الْيَمِينِ*وَ*إِذَا*غَرَبَت* تَّقْرِضُهُمْ*ذَاتَ*90

الشِّمَالِ*وَ*هُمْ*فِي*فَجْوَة ٍ*مِّنْهُ*ذَلِكَ*مِنْ*آيَاتِ*ا للَّهِ*100

مَن*يَهْدِ*اللَّهُ*فَهُوَ*الْم ُهْتَدِ*وَ*مَن*يُضْلِلْ*فَلَن* تَجِدَ*110

لَهُ*وَلِيّاً*مُّرْشِداً*وَ*تَ حْسَبُهُمْ*أَيْقَاظاً*وَ*هُمْ* رُقُودٌ*وَ*120

نُقَلِّبُهُمْ*ذَاتَ*الْيَمِينِ *وَ*ذَاتَ*الشِّمَالِ*وَ*كَلْبُ هُم*بَاسِطٌ*ذِرَاعَيْهِ*130

بِالْوَصِيدِ*لَوِ*اطَّلَعْتَ*ع َلَيْهِمْ*لَوَلَّيْتَ*مِنْهُمْ *فِرَاراً*وَ*لَمُلِئْتَ*مِنْهُ مْ*140

رُعْباً*وَ*كَذَلِكَ*بَعَثْنَاه ُمْ*لِيَتَسَاءلُوا*بَيْنَهُمْ* قَالَ*قَائِلٌ*مِّنْهُمْ*كَمْ*1 50

لَبِثْتُمْ*قَالُوا*لَبِثْنَا*ي َوْماً*أَوْ*بَعْضَ*يَوْمٍ*قَال ُوا*رَبُّكُمْ*أَعْلَمُ*160

بِمَا*لَبِثْتُمْ*فَابْعَثُوا*أ َحَدَكُم*بِوَرِقِكُمْ*هَذِهِ*إ ِلَى*الْمَدِينَةِ*فَلْيَنظُرْ* أَيُّهَا*170

أَزْكَى*طَعَاماً*فَلْيَأْتِكُم *بِرِزْقٍ*مِّنْهُ*وَ*لْيَتَلَط َّفْ*وَ*لا*يُشْعِرَنَّ*180

بِكُمْ*أَحَداً*إِنَّهُمْ*إِن*ي َظْهَرُوا*عَلَيْكُمْ*يَرْجُمُو كُمْ*أَوْ*يُعِيدُوكُمْ*فِي*190

مِلَّتِهِمْ*وَ*لَن*تُفْلِحُوا* إِذاً*أَبَداً*وَ*كَذَلِكَ*أَعْ ثَرْنَا*عَلَيْهِمْ*200

لِيَعْلَمُوا*أَنَّ*وَعْدَ*اللّ َهِ*حَقٌّ*وَ*أَنَّ*السَّاعَةَ* لَا*رَيْبَ*210

فِيهَا*إِذْ*يَتَنَازَعُونَ*بَي ْنَهُمْ*أَمْرَهُمْ*فَقَالُوا*ا بْنُوا*عَلَيْهِم*بُنْيَاناً*رّ َبُّهُمْ*220

أَعْلَمُ*بِهِمْ*قَالَ*الَّذِين َ*غَلَبُوا*عَلَى*أَمْرِهِمْ*لَ نَتَّخِذَنَّ*عَلَيْهِم*مَّسْجِ داً*230

سَيَقُولُونَ*ثَلاثَةٌ*رَّابِعُ هُمْ*كَلْبُهُمْ*وَ*يَقُولُونَ* خَمْسَةٌ*سَادِسُهُمْ*كَلْبُهُم ْ*رَجْماً*240

بِالْغَيْبِ*وَ*يَقُولُونَ*سَبْ عَةٌ*وَ*ثَامِنُهُمْ*كَلْبُهُمْ *قُل*رَّبِّي*أَعْلَمُ*250

بِعِدَّتِهِم*مَّا*يَعْلَمُهُمْ *إِلَّا*قَلِيلٌ*فَلَا*تُمَارِ* فِيهِمْ*إِلَّا*مِرَاء*260

ظَاهِراً*وَ*لَا*تَسْتَفْتِ*فِي هِم*مِّنْهُمْ*أَحَداً*وَ*لَا*ت َقُولَنَّ*270

لِشَيْءٍ*إِنِّي*فَاعِلٌ*ذَلِكَ *غَداً*إِلَّا*أَن*يَشَاءَ*اللّ َهُ*وَ*280

اذْكُر*رَّبَّكَ*إِذَا*نَسِيتَ* وَ*قُلْ*عَسَى*أَن*يَهْدِيَنِ*ر َبِّي*290

لِأَقْرَبَ*مِنْ*هَذَا*رَشَداً* وَ*لَبِثُوا*فِي*كَهْفِهِمْ*ثَل اثَ*مِئَةٍ*300

سِنِينَ*وَ*ازْدَادُوا*تِسْعاً* قُلِ*اللَّهُ*أَعْلَمُ*بِمَا*لَبِثُوا*309

إذن البعد الزمني للكلمات القرآنية بدأ بكلمة (لبثوا) وانتهى بكلمة (لبثوا)، وجاء عدد الكلمات من الكلمة الأولى وحتى الأخيرة مساوياً للزمن الذي لبثه أصحاب الكهف.

والعجيب أيضاً أن عبارة (ثلاث مئة) في هذه القصة جاء رقمها 300 ، وهذا يدلّ على التوافق والتطابق بين المعنى اللغوي والبياني للكلمة وبين الأرقام التي تعبر عن هذه الكلمة




اللمســـــــــــــات البيانية في بعض الأيات:

في سورة الكهف قال الله تعالى (ماكثين فيه أبدا) آية 3 فلماذا لم تستخدم كلمة (خالدين)؟

المكث في اللغة هو الأناة واللبث والإنتظار وليس بمعنى الخلود أصل المكث. الله تعالى يقصد الجنّة (ان لهم أجراً حسنا) والأجر الذي يُدفع مقابل العمل وننظر ماذا يحصل بعد الأجر. والجنّة تكون بعد أن يوفّى الناس أجورهم وفي الآية قال تعالى (أجراً حسناً) فالمقام هنا إذن مقام انتظار وليس مقام خلود بعد وعلى قدر ما تأخذ من الأجر يكون الخلود فيما بعد الأجر وهو الخلود في الجنّة. ومن حيث الدلالة اللغوية الأجر ليس هو الجنّة لذا ناسب أن يأتي بالمكث وليس الخلود للدلالة على الترقّب لما بعد الأجر.



ما دلالة كلمة (لنعلم) في آية سورة الكهف (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً {12})؟

لماذا جاءت كلمة ليعلم مع أن الله تعالى يعلم كل شيئاً مسبقاً؟ قال تعالى في سورة الكهف (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً {12}) والعلم قسمان قسم يتعلق به الجزاء وقسم يعلمه الله ابتداء لا يتعلق بالجزاء. ما يفعله الإنسان هو من علم الله لكن حتى ما فعله الإنسان يتعلق به الجزاء وهناك علم آخر سابق والله يعلم في القدر كل شيء وهو العلم الذي قضاه الله تعالى وما يفعله الإنسان وما يعلمه هو تصديق لعلم الله هذا. وقوله تعالى لنعلم أي الحزبين يعني لنعلم أي منهم يعلم الحقيقة لأن هناك ثلاثة أقوال كل قسم قال شيئاً فمن الذي يعلم الحقيقة؟ الله تعالى هذا العلم الذي يقوله بعد الوقوع لأنه علِم ذلك قبل الوقوع. إذن هناك علمان علم سابق قديم الذي سجّل فيه الله تعالى القدر وعلم لاحق يحقق هذا العلم وهو الذي يتعلق به الجزاء.



في سورة الكهف ما دلالة حرف العطف واو في قوله (سبعة وثامنهم كلبهم) مع أنها لم ترد فيما قبلها (ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم)؟

الواو تفيد التوكيد والتحقيق كما صرّح المفسرون أي كأنها تدل على أن الذين قالوا أن أصحاب الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم هم الذين قالوا القول الصحيح الصواب ومنهم الزمخشري. الواو إذن هي واو الحال ولكنها أفادت التوكيد والتحقيق بأن هذا القول صحيح لآن الواو يؤتى بها إذا تباعد معنى الصفات للدلالة على التحقيق والإهتمام


ماذا عن ربط المستقبل بـ(غد) فقط في قوله تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) الكهف) ؟

غداً في الآية موضع السؤال لا تعني بالضرورة الغد أي اليوم الذي يلي وإنما قد تفيد المستقبل وهي مناسبة لما وقع وما سيقع.

سؤال 9: لماذا قدّم البصر على السمع في آية سورة الكهف ؟

قال تعالى في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً {26}) المعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ لأن فاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ثم إن مدى السمع أقل من مدى البصر فمن نسمعه يكون عادة أقرب ممن نراه، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين. أما لماذا قدّم البصر على السمع في الأية المذكورة فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.

ما إعراب كلمة (كلمة) في قوله تعالى (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) سورة الكهف؟
كلمة هي تمييز، الفاعل ضمير مستتر ويأتي التمييز ليفسرها وتسمى في النحو: الفاعل المفسّر بالتمييز.

ما إعراب (أيّ) في الآية (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا) في سورة الكهف؟
أي: هي مبتدأ. وهي من أسماء الإستفهام وكل الأسماء التي لها صدر الكلام لا يعمل بها ما قبلها إلا حروف الجرّ ولكن يعمل فيها ما بعدها (ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:32 pm

الحكم والفوائد التي نستطيع ان نستخرجها من المقدمة وقصة اصحاب الكهف:



1- الحمد والشكر لله دائما

وهذا مااستخرجة الشيخ الشعرواي في خواطره حيث قال:

ختم الحق سبحانه سورة الإسراء بالحمد، وبدأ سورة الكهف بالحمد، والحمد لله دائماً هو الشعار الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير الكلمات: "سبحان الله والحمد" سبحان الله بدئت بها سورة الإسراء، والحمد لله بدئت بها سورة الكهف. سبحان الله تنزيه لذاته سبحانه أن يكون له شريك، لا في الذات، ولا في الأفعال، ولا في الصفات، والحمد لله كذلك تكبرة للذات، وبعد ذلك جاء العطاء من الذات فقلنا: الحمد لله، فسبحان الله تنزيه، والحمد لله شكر على العطاء.
والحمد يشترك معه في المعنى العام: ثناء وشكر ومدح، إلا أن هذه الألفاظ وإن تقاربت في المعنى العام فلكل منها معناه الخاص، وكل هذه الألفاظ فيها ثناء، إلا أن الشكر يكون من منعم عليه بنعمة خاصة به، كأن يسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك، فتشكره عليه.
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك، فرقعة الحمد أوسع من رقعة الشكر، أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك.
فقول الحق: (الحمد لله) بالألف واللام الدالة على الحصر، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله، الحمد المستوعب لكل شيء، حتى إن حمدك لأي إنسان قدم لك جميلاً فهو ـ إذا سلسلته ـ حمد لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك، فالجميل جاء من حركته، وحركته موهوبة له من خالقه، والنعمة التي أمدك بها موهبة من خالقه تعالى، وهكذا إذا سلسلت الحمد لأي إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعم الأول سبحانه وتعالى.
وكلمة (الحمد لله) هذه هي الصيغة التي علمنا الله أن نحمده بها، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يحدد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخلق في الحمد حسب قدراتهم وتمكنهم من الأداء وحسب قدرتهم على استيعاب النعم، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح في العيي والأمي. فتحمل الله عنا جميعاً هذه الصيغة، وجعلها متساوية للجميع، الكل يقول (الحمد لله) البليغ يقولها، والعيي يقولها، والأمي يقولها.

<لذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحمد الله ويثني عليه: "سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك">

فإن أردنا أن نحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت، ولا يحصيه غيرك، ولا نملك إلا أن نقول ما علمتنا من حمدك: الحمد لله.
إذن: فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد، فنقول: الحمد لله على ما علمنا من الحمد لله، والحمد الأول أيضاً نعمة، وبذلك نقول: الحمد لله على ما علمنا من الحمد لله بالحمد لله.
وهكذا، لو تتبعت الحمد لوجدته سلسلة لا تنتهي، حمد على حمد على حمد على حمد، فيظل الله محموداً دائماً، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية.



2-اختصاص الاسم العلم (الله) بالذكر، دون سائر أسمائه االحسنى وصفاته
فكان يمكن أن يقال (الحمد للحي، الحمد للرحيم، الحمد للبارئ، ..)
ولكن لو حدث ذلك لأفهم أن الحمد إنما استحقه لهذا الوصف دون غيره، فجاء بالاسم العلم ليدل على أنه استحق الحمد لذاته هو لا لصفة من صفاته
ـ ثم إن ذكر لفظ الجلالة (الله) يناسب سياق الآيات، فسيأتي بعدها بقليل "إياك نعبد وإياك نستعين" ولفظ الجلالة (الله) مناسب للعبودية، لأنه مأخوذ من لفظ الإله أي المعبود، وقد اقترنت العبادة باسمه أكثر من خمسين مرة في القرآن



3- العبودية من : العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والاحسان الى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وامثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والانابة إليه واخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وامثال ذلك هى من العبادة لله.

انتهى

وقد اخلص الرسول في العبودية لله تعالى .... وهذا اللفظ (عبده) تكرر في الكثير من الأيات وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب ان ينادوه اصحابه بعبد الله تواضعا منه عليه افضل الصلاة والتسليم

والفائدة هنا هل اخلصنا نحن ايضا عبادتنا لله تعالى فالعبادة معنى واسع وقد وضعت له مبادئ اذكر منها:

نستعين بالله ونستنصره.. ونعوذ به أن نقول زورا أو نغشى فجورا أو أن نكون مغرورين..
نتجه إليه ونتوكل عليه ونبدأ باسمه الرحمن الرحيم..
نبدأ في كل أمر من أمور حياتنا
وفي كل حديث من أحاديثنا
ونحن نطلب رحمة ومغفرة وتوفيقا في رسالتنا على هذه الأرض التي خلقنا من أجلها.. وتواجدَنا لتحقيقها. ......


4-الإنذار والتخويف
الإنذار: التخويف بشر قادم، والمنذر هنا هم الكفار؛ لأنه لا ينذر بالعذاب الشديد إلا الكفار، لكن سياق الآية لم يذكرها للذهن أن يعمل، وأن يستقبل القرآن بفكر متفتح وعقل يستنبط، وليس بالضرورة أن يعطينا القرآن كل شيء هكذا على طرف الثمام أي قريباً سهل التناول.
ثم ضخم العذاب بأنه شديد، ليس ذلك وفقط بل (من لدنا)، والعذاب يتناسب مع المعذب وقوته، فإن كان العذاب من الله فلا طاقة لأحد به، ولا مهرب لأحد منه.


5-البشارة:والبشارة تكون بالخير المنتظر في المستقبل، وتلاحظ أنه في البشارة ذكر المبشر (المؤمنين) ولم يسكت عنهم كما سكت عن الكفار في الإنذار، فهذا من رحمة الله بنا حتى في الأسلوب، والبشارة هنا بالأجر الحسن؛ لأنه أجر من الكريم المتفضل سبحانه




6- تعظيم الأجر الأخروي:

ماكثين: باقين فيه بقاءً أبدياً، وكان لابد أن يوصف أجر الله الحسن بأنه دائم، وأنهم ماكثون فيه أبداً؛ لأن هناك فرقاً بين أجر الناس للناس في الدنيا، وأجر المنعم سبحانه في الآخرة، لقد ألف الناس الأجر على أنه جعل على عمل، فعلى قدر ما تعمل يكون أجرك، فإن لم تعمل فلا أجر لك.
أما أجر الله لعباده في الآخرة فهو أجر عظيم دائم، فإن ظلمك الناس في تقدير أجرك في الدنيا، فالله تعالى عادل لا يظلم يعطيك بسخاء؛ لأنه المنصف المتفضل، وإن انقطع الأجر في الدنيا فإنه دائم في الآخرة؛ لأنك مهما أخذت من نعيم الدنيا فهو نعيم زائل، إما أن تتركه، وإما أن يتركك.



7- التخصيص بعد التعميم في الإنذار

الإنذار هنا غير الإنذار الأول، لقد كرر الإنذار ليكون خاصاً بقمة المعاصي، إنذار للذين قالوا اتخذ الله ولداً، أما الإنذار الأول فهو لمطلق الكفر والمعصية، وأما الثاني فهو لإعادة الخاص مع العام، كأن لهؤلاء الذين نسبوا لله الولد عذاباً يناسب ما وقعوا فيه من جرأة على الحق سبحانه وتعالى



8- عظم شأن التحدث بدون علم
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً

وعدم العلم ينشأ من أمرين: إما أن الشيء موجود وأنت لا تعلم به؛ لأنه مستور عنك، وإما لأن الشيء لا وجود له أصلاً، وأنت لا تعلم أنه غير موجود؛ لأن غير الموجود لا يمكن أن يتعلق به

فالعاقل قبل أن يتكلم يدير الكلام على ذهنه ويعرضه على تفكيره
وهنا يتقرر في الأية 5 انه لابد لنا من حفظ السنتنا من القول الذي لاحاجة فيه
وتعظيم القول الكذب



9- الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم

لأنه حمل نفسه في سبيل هداية قومه ما لا يحمله الله ويلزم ما لا يلزمه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو قومه فيعرضوا ويتولوا عنه فيشيع آثارهم بالأسف والحزن، كما يسافر عنك حبيب أو عزيز، فتسير على أثره تملؤك مرارة الأسى والفراق، فكأن رسول الله لحبه لقومه وحرصه على هدايتهم يكاد يهلك نفسه (أسفاً).
والأسف: الحزن العميق



10- حقيقة الزينة والبلاء في الأرض

إشارة لرسول الله بأن الدنيا قصيرة، فالمسألة ـ إذن ـ قريبة فلا داعي لأن يهلك نفسه حزناً على عناد قومه، فالدنيا لكل إنسان مدة بقائه بها وعيشه فيها، ولا دخل له بعمرها الحقيقي؛ لأن حياة غيره لا تعود عليه بشيء، وعلى هذا فما أقصر الدنيا، وما أسرع انتهائها، ثم يرجعون إلينا فنجازيهم بما عملوا، فلا تحزن ولا تيأس، ولا تكدر نفسك، لأنهم لم يؤمنوا.

كل ما على الأرض هو زينة، والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام الأعين فيغريها، ثم يندثر ويتلاشى، وقد أوضح لنا القرآن هذه المسألة في قوله تعالى

البلاء يعني: الاختبار والامتحان. وليس المصيبة كما يظن البعض؛ لأن المصيبة تكون على من يخفق في الاختبار
يتبع...........................
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:33 pm

فوائد في قصة اصحاب الكهف:



1- التوكل على الله حق التوكل والثقة به سبحانه وتعالى والذي تجلى في أبهى صوره حين ترك الفتية جميع ملذات الدنيا وفروا بدينهم طالبين بذلك العون والرضى والرشاد من الله تعالى

2- عَظم شأن من أدرك شبابه في طاعة الله

يقول الشيخ الشعراوي:

والشباب هم معقد الآمال في حمل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب، وهؤلاء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك، فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة.
لذلك لجأوا إلى الكهف مخلفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون، وفروا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أي مقوم من مقومات الحياة؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقومات، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم؛ لذلك ضرعوا إليه قائلين:

{ربنا آتنا من لدنك رحمة .. "10"}

أي: رحمة من عندك، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مقومات الحياة، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله:

{وهيئ لنا من أمرنا رشداً .. "10"}


أي: يسر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق.
إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرعوا واتجهوا إلى ربهم، فهو وحده القادر على أن يوسع عليهم هذا الضيق.


3- ضبط النفس من صفات المؤمن التقي
وهذا ماتجلى في قوله تعالى (وربطنا على قلوبهم)
لتظل بداخلها العقيدة والإيمان بالله لا تتزعزع ولا تخرجها الأحداث والشدائد، وهذا من زيادة الهدى الذي أخبرت به الآية السابقة. وقوله تعالى:

(إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض .. "14"}
قاموا: القيام هنا دليل على مواجهتهم للباطل ووقوفهم في وجهه، وأن الباطل أفزعهم فهبوا للتصدي له بقولهم:
{رب السماوات والأرض .. "14"}

ولابد أنهم سمعوا كلاماً يناقض قولهم، وتعرضوا في دعوتهم للحرب والاضطهاد، فالآية تعطي صورة لفريقين: فريق الكفر الذي ينكر وجود الله أو يشرك به، وفريق الإيمان الذي يعلنها مدوية:

{ربنا رب السماوات والأرض .. "14"} وإن كان فريق الكفر يدعو إلى عبادة آلهة من دون الله فإن فريق الإيمان يقول:

{لن ندعو من دون إلهاً "14"} فإن ادعينا إلهاً من دون الله

{لقد قلنا إذاً شططاً "14"} أي: فقد تجاوزنا الحد، وبعدنا عن الصواب. ثم يقول الحق سبحانه

ومن هنا نأمر الغاضب الذي تغلي الدماء في عروقه بالهدوء وضبط النفس؛ لأن الهدوء سيعينه على الحق، ويلجم جماح غضبه الذي لا تحمد عقباه، ألا ترى التوجيه النبوي في حال الغضب؟ إنه ينصح بتغيير الوضع الذي أنت عليه؛ لأن هذه العملية تحدث لديك نزوعية، تصرف عنك الغضب

4- تقرير عظِم الشرك ووصفه بالظلم :
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً "15"}فأفظع الظلم وأقبحه أن نفتري على الله الكذب، كما قال تعالى:
{إن الشرك لظلم عظيم }

5-توضيح مفهوم الهداية والضلال

{ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً "17"}

فقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، فهناك دائماً من يقول: إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت؟
وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة، ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة، ونقول لكل مجادل: لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لم تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر، ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم.
والهداية نوعان: هداية دلالة، وهي للجميع، للمؤمن والكافر؛ لأن الحق سبحانه لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يقبل على الإيمان به، فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة، فيأخذ بيده ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له أمره.
فمن شاء الحق سبحانه هدايته أعطاه الهداية، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بين أن من شاء هدايته يهتدي، وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي، وكذلك الظالم والفاسق، لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع الحق سبحانه عنهم هداية المعونة


6- الإيمان بالبعث:

قوله: (بعثناهم) أي: أيقظناهم من نومهم؛ لأن نومهم الطويل الذي استغرق ثلاثمائة سنة وتسعاً أشبه الموت، فقال (بعثناهم)، والبعث هنا لقضية خاصة بهم

7- الإيمان بقدرة الله تعالى المتجليه في نومهم 309 سنوات دون تغير اجسادهم ودون فناءها:
فلم يجدوا في ذواتهم شيئاً يدل على مرور زمن طويل، حيث وجدوا أنفسهم على الحال التي ناموا عليها، فلم يتغير مثلاً حالهم من الشباب إلى الشيخوخة، ولم يتغير شعرهم مثلاً إلى البياض؛ لذلك قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، ولو وجدوا أنفسهم شيباً لقدروا الزمن المناسب لهذا الشيب.
وهذه وقفة المشدوه حين يسأل عن زمن لا يدري مدته، إنه طويل عند الله إنما قصير عنده،

8- ترك الحديث فيما لا ينفع والبحث فيما ينفع
في قوله تعالى( قالوا ربكم أعلم بما لبثتم )

وهو قول الجماعة الذين أرادوا إنهاء الخلاف في هذه المسألة، فقالوا لإخوانهم: دعونا من هذه القضية التي لا تفيد، واتركوا أمرها لله تعالى. ودائماً يأمرنا الحق سبحانه بأن ننقل الجدل من شيء لا ننتهي فيه إلى شيء، ونحوله للأمر المثمر النافع؛ لذلك قالوا:

{فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا "19"}

وايضا في الاية الكريمة:

سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحداً

9- البحث عن الكسب الحلال:
فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما

أن الجوع لم يحملهم على طلب مطلق الطعام، بل تراهم حريصين على تزكية طعامهم واختيار أطيبه وأطهره، وأبعده عن الحرام.

10_ أخذ الحيطة والحذر في الحفاظ على دينهم من الفتن :

وكذلك لم يفتهم أن يكونوا على حذر من قومهم، فمن سيذهب منهم إلى هذه المهمة عليه أن يدخل المدينة خلسة، وأن يتلطف في الأمر حتى لا يشعر به أحد من القوم، ذلك لأنهم استيقظوا على الحالة التي ناموا عليها، ومازالوا على حذر من قومهم يظنون أنهم يتتبعونهم ويبحثون عنهم، ويسعون للقضاء عليهم.
(إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً )
وهذا احتياط منهم للدين، وحماية للعقيدة التي فروا بها. فإن يرجموكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة.

11- الرفعة والعزة لمن فر الى الله والتجاء به :

في قوله تعالى :
إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم .. "21"}
حدث هذا التنازع من الجماعة الذين عثروا عليهم، ويبدو أنهم كانوا على مسحة من الدين، فأرادوا أن يحافظوا على هذه الآية الإلهية، ويصح أنهم بمجرد أن عثروا عليهم قضى أجلهم فماتوا.
وهذه مسألة يجب أن يؤرخ لها، وأن تخلد؛ لذلك جعلوها مثلاً شروداً للعالم كله لتعرف قصة هؤلاء الفتية الذين ضحوا في سبيل عقيدتهم وفروا بدينهم من سعة الحياة إلى ضيق الكهف؛ ليكونوا مثلاً لكل أهل العقيدة، ودليلاً على أن الله تعالى ينصر أهله ويدافع عنهم ويخلد ذكراهم إلى قيام الساعة

12- تقديم مشيئة الله في الامور المستقبلية:

تتجلى في هذه الآية رحمة الله بالمحبوب محمد صلى الله عليه وسلم فلم يرد سبحانه وتعالى أن يصدم رسوله بمسألة المخالفة هذه، بل أعطاه ما أراد، وأجابه إلى ما طلب من مسألة أهل الكهف، ثم في النهاية ذكره بهذه المخالفة في أسلوب وعظ رقيق

وقد سبق أن ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال: سأجيبكم غداً ولم يقل: إن شاء الله. فلم يعاجله الله تعالى بالعتاب، بل قضى له حاجته، ثم لفت نظره إلى أمر هذه المخالفة، وهذا من رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم.

(هذه النقطة أعجبتني جدا فانظروا لعظمة وشأن الرسول صلى الله عليه وسلم)


13- مراعاة الله للانسان لما يحدث له من نسيان:

واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً "24")

أي: على فرض أنك نسيت المشيئة ساعة البدء في الفعل، فعليك أن تعيدها ثانية لتتدارك ما حدث منك من نسيان في بداية الأمر. وقوله تعالى:

{وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً .. "24"}
أي: يهديني ويعينني، فلا أنسى أبداً، وأن يجعل ذكره لازمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فلا أبدأ عملاً إلا بقوله: إن شاء الله.

14- سعة وشمول علم الله تعالى:

ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"25") وهذه الآية تعطينا لقطة من المذكرة التفصيلية التي أعطاها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف، وهي تحدد عدد السنين التي قضاها الفتية في كهفهم بأنها ثلاثمائة سنة، وهذا هو عددها الفعلي بحساب الشمس.
لذلك؛ فالحق سبحانه لم يقل ثلاثمائة وتسعاً، بل قال:

{وازدادوا تسعاً "25"}
(سورة الكهف)

ولما سمع أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا: نعرف ثلاثمائة سنة، ولكن لا نعرف التسعة؛ ذلك لأن حسابهم لهذه المدة كان حساباً شمسياً.
ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والأرض قسم الزمن تقسيماً فلكياً، فجل الشمس عنواناً لليوم، نعرفه بشروقها وغروبها، ولما كانت الشمس لا تدلنا على بداية الشهر جعل الخالق سبحانه الشهر مرتبطاً بالقمر الذي يظهر هلالاً في أول كل شهر

فلو حسبت الثلاثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلاثمائة سنة وتسعاً، إذن: هي في حسابكم الشمسي ثلاثمائة سنة، وفي حسابنا القمري ثلاثمائة وتسعاً. ونعرف أن السنة الميلادية تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوماً تقريباً في كل عام


وهنا لفتة جميلة :

نحن كمسلمين نلتزم بالتوقيت القمري (بالاهلة ) لماذا؟؟

ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في الإسلام بالأهلة، ولك أن تتصور لو ارتبط الحج مثلاً بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد لا يتغير، فإن جاء الحج في الشتاء يظل هكذا في كل عام، وكم في هذا من مشقة على من لا يناسبهم الحج في فصل الشتاء. والأمر كذلك في الصيام.
أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام، فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف، ومرة في الخريف، ومرة في الشتاء، ومرة في الربيع، فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت الذي يناسبه


15-الأطمئنان لــعبادة الله تعالى وفي تصديق ماأنزل به حيث ذكر سبحانه:

{ما لهم من دونه من وليٍ ولا يشرك في حكمه أحداً "26"}
(سورة الكهف)

كأن الحق سبحانه وتعالى يطمئن عباده بأن كلامه حق لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه سبحانه واحد أحد لا شريك له



أنتهى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:34 pm


وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا

أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا



تفسير القرطبي:


وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ

قِيلَ : هُوَ مِنْ تَمَام قِصَّة أَصْحَاب الْكَهْف ; أَيْ اِتَّبِعْ الْقُرْآن فَلَا مُبَدِّل لِكَلِمَاتِ اللَّه وَلَا خُلْف فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قِصَّة أَصْحَاب الْكَهْف . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : لَا مُغَيِّر لِمَا أَوْعَدَ بِكَلِمَاتِهِ أَهْل مَعَاصِيه وَالْمُخَالِفِينَ لِكِتَابِهِ .

وَلَنْ تَجِدَ

أَنْتَ .

مِنْ دُونِهِ

إِنْ لَمْ تَتَّبِع الْقُرْآن وَخَالَفْته .

مُلْتَحَدًا

أَيْ مَلْجَأ وَقِيلَ مَوْئِلًا وَأَصْله الْمَيْل وَمَنْ لَجَأْت إِلَيْهِ فَقَدْ مِلْت إِلَيْهِ .




وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ

هَذَا مِثْل قَوْله : " وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ " [ الْأَنْعَام : 52 ] فِي سُورَة " الْأَنْعَام " وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ . وَقَالَ سَلْمَان الْفَارِسِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : جَاءَتْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عُيَيْنَة بْن حِصْن وَالْأَقْرَع بْن حَابِس فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه ; إِنَّك لَوْ جَلَسْت فِي صَدْر الْمَجْلِس وَنَحَّيْت عَنَّا هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاح جِبَابهمْ - يَعْنُونَ سَلْمَان وَأَبَا ذَرّ وَفُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ , وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جِبَاب الصُّوف لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرهَا - جَلَسْنَا إِلَيْك وَحَادَثْنَاك وَأَخَذْنَا عَنْك , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْك مِنْ كِتَاب رَبّك لَا مُبَدِّل لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِد مِنْ دُونه مُلْتَحَدًا . وَاصْبِرْ نَفْسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهه - حَتَّى بَلَغَ - إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقهَا " . يَتَهَدَّدهُمْ بِالنَّارِ . فَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسهُمْ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُمْ فِي مُؤَخَّر الْمَسْجِد يَذْكُرُونَ اللَّه قَالَ : ( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنْ أَصْبِر نَفْسِي مَعَ رِجَال مِنْ أُمَّتِي , مَعَكُمْ الْمَحْيَا وَمَعَكُمْ الْمَمَات ) . وَقَرَأَ نَصْر بْن عَاصِم وَمَالِك بْن دِينَار وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن " وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغُدْوَةِ وَالْعَشِيّ " وَحُجَّتهمْ أَنَّهَا فِي السَّوَاد بِالْوَاوِ . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يَلْزَم لِكَتْبِهِمْ الْحَيَاة وَالصَّلَاة بِالْوَاوِ , وَلَا تَكَاد الْعَرَب تَقُول الْغُدْوَة لِأَنَّهَا مَعْرُوفَة .

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ

أَيْ طَاعَته .

وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ

وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن " وَلَا تَعُدَّ عَيْنَاك عَنْهُمْ " أَيْ لَا تَتَجَاوَز عَيْنَاك إِلَى غَيْرهمْ مِنْ أَبْنَاء الدُّنْيَا طَلَبًا لِزِينَتِهَا ; حَكَاهُ الْيَزِيدِيّ . وَقِيلَ : لَا تَحْتَقِرهُمْ عَيْنَاك ; كَمَا يُقَال فُلَان تَنْبُو عَنْهُ الْعَيْن ; أَيْ مُسْتَحْقَرًا . و " تُرِيد " فِعْل مُضَارِع فِي مَوْضِع الْحَال ; أَيْ لَا تَعْدُ عَيْنَاك مُرِيدًا ; : لَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ ; لِأَنَّ " تَعْدُ " مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ . قِيلَ لَهُ : وَاَلَّذِي وَرَدَتْ بِهِ التِّلَاوَة مِنْ رَفْع الْعَيْنَيْنِ يَئُول إِلَى مَعْنَى النَّصْب فِيهَا , إِذَا كَانَ لَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ , وَمَعْنَى لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ لَا تَصْرِف عَيْنَيْك عَنْهُمْ ; فَالْفِعْل مُسْنَد إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُوَجَّه إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ " فَأَسْنَدَ الْإِعْجَاب إِلَى الْأَمْوَال , وَالْمَعْنَى : لَا تُعْجِبك يَا مُحَمَّد أَمْوَالهمْ . وَيَزِيدك وُضُوحًا قَوْل الزَّجَّاج : إِنَّ الْمَعْنَى لَا تَصْرِف بَصَرك عَنْهُمْ إِلَى غَيْرهمْ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَات وَالزِّينَة .

تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

أَيْ تَتَزَيَّن بِمُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاء الَّذِينَ اِقْتَرَحُوا إِبْعَاد الْفُقَرَاء مِنْ مَجْلِسك ; وَلَمْ يُرِدْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ , وَلَكِنَّ اللَّه نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَفْعَلهُ , وَلَيْسَ هَذَا بِأَكْثَر مِنْ قَوْله " لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلك " [ الزُّمَر : 65 ] . وَإِنْ كَانَ اللَّه أَعَاذَهُ مِنْ الشِّرْك .

وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا

رَوَى جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبه عَنْ ذِكْرنَا " قَالَ : نَزَلَتْ فِي أُمَيَّة بْن خَلَف الْجُمَحِيّ , وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَمْر كَرِهَهُ مِنْ تَجَرُّد الْفُقَرَاء عَنْهُ وَتَقْرِيب صَنَادِيد أَهْل مَكَّة ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبه عَنْ ذِكْرنَا " يَعْنِي مَنْ خَتَمْنَا عَلَى قَلْبه عَنْ التَّوْحِيد . وَقِيلَ : نَزَلَتْ " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبه عَنْ ذِكْرنَا " فِي عُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق , وَحَكَاهُ النَّحَّاس عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَاتَّبَعَ هَوَاهُ

يَعْنِي الشِّرْك .

وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا

قِيلَ هُوَ مِنْ التَّفْرِيط الَّذِي هُوَ التَّقْصِير وَتَقْدِيم الْعَجْز بِتَرْكِ الْإِيمَان . وَقِيلَ : مِنْ الْإِفْرَاط وَمُجَاوَزَة الْحَدّ , وَكَأَنَّ الْقَوْم قَالُوا : نَحْنُ أَشْرَاف مُضَر إِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ النَّاس ; وَكَانَ هَذَا مِنْ التَّكَبُّر وَالْإِفْرَاط فِي الْقَوْل . وَقِيلَ : " فُرُطًا " أَيْ قُدُمًا فِي الشَّرّ ; مِنْ قَوْلهمْ : فَرَطَ مِنْهُ أَمْر أَيْ سَبَقَ . وَقِيلَ : مَعْنَى " أَغْفَلْنَا قَلْبه " وَجَدْنَاهُ غَافِلًا ; كَمَا تَقُول : لَقِيت فُلَانًا فَأَحْمَدْته ; أَيْ وَجَدْته مَحْمُودًا . وَقَالَ عَمْرو بْن مَعْدِيكَرِبَ لِبَنِي الْحَارِث بْن كَعْب : وَاَللَّه لَقَدْ سَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ , وَقَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ , وَهَاجَيْنَاكُمْ فَمَا أَفْحَمْنَاكُمْ ; أَيْ مَا وَجَدْنَاكُمْ بُخَلَاء وَلَا جُبَنَاء وَلَا مُفْحَمِينَ .



وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ

" الْحَقّ " رُفِعَ عَلَى خَبَر الِابْتِدَاء الْمُضْمَر ; أَيْ قُلْ هُوَ الْحَقّ . وَقِيلَ : هُوَ رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء , وَخَبَره فِي قَوْله " مِنْ رَبّكُمْ " . وَمَعْنَى الْآيَة : قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبهمْ عَنْ ذِكْرنَا : أَيّهَا النَّاس مِنْ رَبّكُمْ الْحَقّ فَإِلَيْهِ التَّوْفِيق وَالْخِذْلَان , وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَال , يَهْدِي مَنْ يَشَاء فَيُؤْمِن , وَيُضِلّ مَنْ يَشَاء فَيَكْفُر ; لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْء , فَاَللَّه يُؤْتِي الْحَقّ مَنْ يَشَاء وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا , وَيَحْرِمهُ مَنْ يَشَاء وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا غَنِيًّا , وَلَسْت بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لِهَوَاكُمْ ; فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمِنُوا , وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا . وَلَيْسَ هَذَا بِتَرْخِيصٍ وَتَخْيِير بَيْن الْإِيمَان وَالْكُفْر , وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيد وَتَهْدِيد . أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمْ النَّار , وَإِنْ آمَنْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّة .

إِنَّا أَعْتَدْنَا

أَيْ أَعْدَدْنَا .

لِلظَّالِمِينَ

أَيْ لِلْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ .

نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا

قَالَ الْجَوْهَرِيّ : السُّرَادِق وَاحِد السُّرَادِقَات الَّتِي تُمَدّ فَوْق صَحْن الدَّار . وَكُلّ بَيْت مِنْ كُرْسُف فَهُوَ سُرَادِق . وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : " سُرَادِقهَا " سُورهَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : حَائِط مِنْ نَار . الْكَلْبِيّ : عُنُق تَخْرُج مِنْ النَّار فَتُحِيط بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ . الْقُتَبِيّ : السُّرَادِق الْحُجْزَة الَّتِي تَكُون حَوْل الْفُسْطَاط . وَقَالَهُ اِبْن عَزِيز . وَقِيلَ : هُوَ دُخَان يُحِيط بِالْكُفَّارِ يَوْم الْقِيَامَة , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَة " وَالْمُرْسَلَات " . حَيْثُ يَقُول : " اِنْطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِي ثَلَاث شُعَب " [ الْمُرْسَلَات : 30 ] وَقَوْله : " وَظِلّ مِنْ يَحْمُوم " [ الْوَاقِعَة : 43 ] قَالَهُ قَتَادَة . وَقِيلَ : إِنَّهُ الْبَحْر الْمُحِيط بِالدُّنْيَا . وَرَوَى يَعْلَى بْن أُمَيَّة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبَحْر هُوَ جَهَنَّم - ثُمَّ تَلَا - نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقهَا - ثُمَّ قَالَ - وَاَللَّه لَا أَدْخُلهَا أَبَدًا مَا دُمْت حَيًّا وَلَا يُصِيبنِي مِنْهَا قَطْرَة ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَخَرَّجَ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لِسُرَادِقِ النَّار أَرْبَع جُدُر كُثُف كُلّ جِدَار مَسِيرَة أَرْبَعِينَ سَنَة )

قُلْت : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ السُّرَادِق مَا يَعْلُو الْكُفَّار مِنْ دُخَان أَوْ نَار , وَجُدُره مَا وُصِفَ .

وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ

قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمُهْل مَاء غَلِيظ مِثْل دُرْدِيّ الزَّيْت . مُجَاهِد : الْقَيْح وَالدَّم . الضَّحَّاك : مَاء أَسْوَد , وَإِنَّ جَهَنَّم لَسَوْدَاء , وَمَاؤُهَا أَسْوَد وَشَجَرهَا أَسْوَد وَأَهْلهَا سُود . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ كُلّ مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِر الْأَرْض مِنْ حَدِيد وَرَصَاص وَنُحَاس وَقَزْدِير , فَتَمُوج بِالْغَلَيَانِ , فَذَلِكَ الْمُهْل . وَنَحْوه عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : هُوَ الَّذِي قَدْ اِنْتَهَى حَرّه . وَقَالَ : الْمُهْل ضَرْب مِنْ الْقَطْرَانِ ; يُقَال : مَهَلْت الْبَعِير فَهُوَ مَمْهُول . وَقِيلَ : هُوَ السُّمّ . وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِب . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " كَالْمُهْلِ " . وَخَرَّجَ عَنْ أَبِي أُمَامَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله : " وَيُسْقَى مِنْ مَاء صَدِيد يَتَجَرَّعهُ " قَالَ : ( يُقَرَّب إِلَى فِيهِ فَكَرِهَهُ فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهه وَوَقَعَتْ فَرْوَة رَأْسه وَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُج مِنْ دُبُره . يَقُول اللَّه تَعَالَى " وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " [ مُحَمَّد : 15 ] يَقُول " وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوه بِئْسَ الشَّرَاب وَسَاءَتْ مُرْتَفِقًا " قَالَ : حَدِيث غَرِيب .

قُلْت : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى صِحَّة تِلْكَ الْأَقْوَال , وَأَنَّهَا مُرَادَة , وَاَللَّه أَعْلَم . وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهَا أَهْل اللُّغَة . فِي الصِّحَاح " الْمُهْل " النُّحَاس الْمُذَاب . اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْمُهْل الْمُذَاب مِنْ الرَّصَاص . وَقَالَ أَبُو عَمْرو . الْمُهْل دُرْدِيّ الزَّيْت . وَالْمُهْل أَيْضًا الْقَيْح وَالصَّدِيد . وَفِي حَدِيث أَبِي بَكْر : اِدْفِنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالتُّرَاب .

بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا

قَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ مُجْتَمَعًا , كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الْمُرَافَقَة . اِبْن عَبَّاس : مَنْزِلًا . عَطَاء : مُقِرًّا . وَقِيلَ مِهَادًا . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : مَجْلِسًا , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب ; وَأَصْله مِنْ الْمُتَّكَأ , يُقَال مِنْهُ : اِرْتَفَقْت أَيْ اِتَّكَأْت عَلَى الْمَرْفِق .




إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا

لَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ مِنْ الْهَوَان ذَكَرَ أَيْضًا مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الثَّوَاب . وَفِي الْكَلَام إِضْمَار ; أَيْ لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا , فَأَمَّا مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ غَيْر الْمُؤْمِنِينَ فَعَمَله مُحْبَط . وَرَوَى الْبَرَاء بْن عَازِب أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع , وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِف بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَته الْعَضْبَاء فَقَالَ : إِنِّي رَجُل مُسْلِم فَأَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " الْآيَة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَنْتَ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ وَلَا هُمْ بِبَعِيدٍ مِنْك هُمْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ فَأَعْلِمْ قَوْمَك أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِمْ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ , وَأَسْنَدَهُ النَّحَّاس فِي كِتَاب مَعَانِي الْقُرْآن , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن سَهْل قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْد قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن الضَّرِيس عَنْ زُهَيْر بْن مُعَاوِيَة عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : قَامَ أَعْرَابِيّ . .. ; فَذَكَرَهُ . وَأَسْنَدَهُ السُّهَيْلِيّ فِي كِتَاب الْأَعْلَام . وَقَدْ رُوِّينَا جَمِيع ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ , وَالْحَمْد لِلَّهِ . و " عَمَلًا " نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيز , وَإِنْ شِئْت بِإِيقَاعِ " أَحْسَنَ " عَلَيْهِ . وَقِيلَ : " إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا " كَلَام مُعْتَرِض , وَالْخَبَر قَوْله " أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّات عَدْن " .



أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ

سُرَّة الْجَنَّة , أَيْ وَسَطهَا وَسَائِر الْجَنَّات مُحْدِقَة بِهَا وَذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْع لِسَعَتهَا ; لِأَنَّ كُلّ بُقْعَة مِنْهَا تَصْلُح أَنْ تَكُون جَنَّة وَقِيلَ : الْعَدْن الْإِقَامَة , وَمِنْهُ " جَنَّات عَدْن " أَيْ جَنَّات إِقَامَة وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَعْدِن ( بِكَسْرِ الدَّال ) ; لِأَنَّ النَّاس يُقِيمُونَ فِيهِ بِالصَّيْفِ وَالشِّتَاء وَمَرْكَز كُلّ شَيْء مَعْدِنه وَالْعَادِن : النَّاقَة الْمُقِيمَة فِي الْمَرْعَى . وَعَدْن بَلَد ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ .

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ

أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهمْ وَمَنَازِلهمْ ; وَمِنْهُ قَوْله فِرْعَوْن : " وَهَذِهِ الْأَنْهَار تَجْرِي مِنْ تَحْتِي " [ الزُّخْرُف : 51 ] .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ

وَهُوَ جَمْع سِوَار . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ ثَلَاثَة أَسْوِرَة : وَاحِد مِنْ ذَهَب , وَوَاحِد مِنْ وَرِق , وَوَاحِد مِنْ لُؤْلُؤ .

قُلْت : هَذَا مَنْصُوص فِي الْقُرْآن , قَالَ هُنَا " مِنْ ذَهَب " وَقَالَ فِي الْحَجّ وَفَاطِر " مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤًا " [ الْحَجّ : 23 ] وَفِي الْإِنْسَان " مِنْ فِضَّة " [ الْإِنْسَان : 21 ] . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : سَمِعْت خَلِيلِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( تَبْلُغ الْحِلْيَة مِنْ الْمُؤْمِن حَيْثُ يَبْلُغ الْوُضُوء ) خَرَّجَهُ مُسْلِم .

وَهُوَ الَّذِي يُلْبَس فِي الذِّرَاع مِنْ ذَهَب , فَإِنْ كَانَ مِنْ فِضَّة فَهُوَ قُلْب وَجَمْعه قَلِبَة ; فَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْن أَوْ عَاج فَهِيَ مَسْكَة وَجَمْعه مَسَك .

قُلْت : قَدْ جَاءَ فِي الصِّحَاح وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : وَاحِدهَا إِسْوَار . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَمَّا كَانَتْ الْمُلُوك تَلْبَس فِي الدُّنْيَا الْأَسَاوِر وَالتِّيجَان جَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَنَّة .

وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ

السُّنْدُس : الرَّقِيق النَّحِيف , وَاحِده سُنْدُسَة . وَالْإِسْتَبْرَق : مَا ثَخُنَ مِنْهُ - عَنْ عِكْرِمَة - وَهُوَ الْحَرِير . وَتَصْغِيره أُبَيْرَق . وَقِيلَ : هُوَ اِسْتَفْعَلَ مِنْ الْبَرِيق . وَالصَّحِيح أَنَّهُ وِفَاق بَيْن اللُّغَتَيْنِ ; إِذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ مِنْ لُغَة الْعَرَب , عَلَى مَا تَقَدَّمَ , .

رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَخْبِرْنَا عَنْ ثِيَاب الْجَنَّة , أَخَلْق يُخْلَق أَمْ نَسْج يُنْسَج ؟ فَضَحِكَ بَعْض الْقَوْم . فَقَالَ لَهُمْ : ( مِمَّ تَضْحَكُونَ مِنْ جَاهِل يَسْأَل عَالِمًا ) فَجَلَسَ يَسِيرًا أَوْ قَلِيلًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْنَ السَّائِل عَنْ ثِيَاب الْجَنَّة ) ؟ فَقَالَ : هَا هُوَ ذَا يَا رَسُول اللَّه ; قَالَ ( لَا بَلْ تَشَّقَّق عَنْهَا ثَمَر الْجَنَّة ) قَالَهَا ثَلَاثًا . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : دَار الْمُؤْمِن دُرَّة مُجَوَّفَة فِي وَسَطهَا شَجَرَة تُنْبِت الْحُلَل وَيَأْخُذ بِأُصْبُعِهِ أَوْ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ سَبْعِينَ حُلَّة مُنَظَّمَة بِالدُّرِّ وَالْمَرْجَانِ . ذَكَرَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام فِي تَفْسِيره وَابْن الْمُبَارَك فِي رَقَائِقه . وَقَدْ ذَكَرْنَا إِسْنَاده فِي كِتَاب التَّذْكِرَة . وَذُكِرَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ يَكُون عَلَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ الْحُلَّة لَهَا وَجْهَانِ لِكُلِّ وَجْه لَوْن , يَتَكَلَّمَانِ بِهِ بِصَوْتٍ يَسْتَحْسِنهُ سَامِعه , يَقُول أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلْآخَرِ : أَنَا أَكْرَم عَلَى وَلِيّ اللَّه مِنْك , أَنَا أَلِي جَسَده وَأَنْتَ لَا تَلِي . وَيَقُول الْآخَر : أَنَا أَكْرَم عَلَى وَلِيّ اللَّه مِنْك , أَنَا أُبْصِر وَجْهه وَأَنْتَ لَا تُبْصِر .

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ

" الْأَرَائِك " جَمْع أَرِيكَة , وَهِيَ السُّرَر فِي الْحِجَال . وَقِيلَ الْفُرُش فِي الْحِجَال ; قَالَهُ الزَّجَّاج . اِبْن عَبَّاس : هِيَ الْأَسِرَّة مِنْ ذَهَب , وَهِيَ مُكَلَّلَة بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوت عَلَيْهَا الْحِجَال , الْأَرِيكَة مَا بَيْن صَنْعَاء إِلَى أَيْلَة وَمَا بَيْن عَدَن إِلَى الْجَابِيَة . وَأَصْل مُتَّكِئِينَ مُوْتَكَئِينَ , وَكَذَلِكَ اِتَّكَأَ أَصْله اوْتَكَأَ , وَأَصْل التُّكَأَة وُكَأَة ; وَمِنْهُ التَّوَكُّؤ لِلتَّحَامُلِ عَلَى الشَّيْء , فَقُلِبَتْ الْوَاو تَاء وَأُدْغِمَتْ . وَرَجُل وُكَأَة كَثِير الِاتِّكَاء .

نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا

يَعْنِي الْجَنَّات , عَكْس " وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا " . وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَلَوْ كَانَ " نِعْمَتْ " لَجَازَ لِأَنَّهُ اِسْم لِلْجَنَّةِ . وَعَلَى هَذَا " وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا " .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:34 pm


وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا

لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا

فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا

وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا



تفسير القرطبي:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ

هَذَا مَثَل لِمَنْ يَتَعَزَّز بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِف عَنْ مُجَالَسَة الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ " وَاصْبِرْ نَفْسك " [ الْكَهْف : 28 ] .

وَاخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَتَعْيِينهمَا ; فَقَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مِنْ أَهْل مَكَّة مَخْزُومِيَّيْنِ , أَحَدهمَا مُؤْمِن وَهُوَ أَبُو سَلَمَة عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْأَسَد بْن هِلَال بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مَخْزُوم , زَوْج أُمّ سَلَمَة قَبْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْآخَر كَافِر وَهُوَ الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد , وَهُمَا الْأَخَوَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَة " الصَّافَّات " فِي قَوْله " قَالَ قَائِل مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين " [ الصَّافَّات : 51 ] , وَرِثَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعَة آلَاف دِينَار , فَأَنْفَقَ أَحَدهمَا مَاله فِي سَبِيل اللَّه وَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَقَالَ مَا قَالَ . .. ;

ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَالْقُشَيْرِيّ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل مَكَّة . وَقِيلَ : هُوَ مَثَل لِجَمِيعِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَجَمِيع مَنْ كَفَرَ .

وَقِيلَ : هُوَ مَثَل لِعُيَيْنَة بْن حِصْن وَأَصْحَابه مَعَ سَلْمَان وَصُهَيْب وَأَصْحَابه ; شَبَّهَهُمْ اللَّه بِرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل أَخَوَيْنِ أَحَدهمَا مُؤْمِن وَاسْمه يَهُوذَا ; فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مُقَاتِل : اِسْمه تمليخا . وَالْآخَر كَافِر وَاسْمه قرطوش . وَهُمَا اللَّذَانِ وَصَفَهُمَا اللَّه تَعَالَى فِي سُورَة الصَّافَّات .

وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمُقْرِئ قَالَ : اِسْم الْخَيِّر مِنْهُمَا تمليخا , وَالْآخَر قرطوش , وَأَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ ثُمَّ اِقْتَسَمَا الْمَال فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار , فَاشْتَرَى الْمُؤْمِن مِنْهُمَا عَبِيدًا بِأَلْفٍ وَأَعْتَقَهُمْ , وَبِالْأَلْفِ الثَّانِيَة ثِيَابًا فَكَسَا الْعُرَاة , وَبِالْأَلْفِ الثَّالِثَة طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْجُوَّع , وَبَنَى أَيْضًا مَسَاجِد , وَفَعَلَ خَيْرًا .

وَأَمَّا الْآخَر فَنَكَحَ بِمَالِهِ نِسَاء ذَوَات يَسَار , وَاشْتَرَى دَوَابّ وَبَقَرًا فَاسْتَنْتَجَهَا فَنَمَتْ لَهُ نَمَاء مُفْرِطًا , وَاتَّجَرَ بِبَاقِيهَا فَرَبِحَ حَتَّى فَاقَ أَهْل زَمَانه غِنًى ; وَأَدْرَكَتْ الْأَوَّلَ الْحَاجَةُ , فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِم نَفْسه فِي جَنَّة يَخْدُمهَا فَقَالَ : لَوْ ذَهَبْت لِشَرِيكِي وَصَاحِبِي فَسَأَلْته أَنْ يَسْتَخْدِمنِي فِي بَعْض جَنَّاته رَجَوْت أَنْ يَكُون ذَلِكَ أَصْلَح بِي , فَجَاءَهُ فَلَمْ يَكَدْ يَصِل إِلَيْهِ مِنْ غِلَظ الْحُجَّاب , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَعَرَفَهُ وَسَأَلَهُ حَاجَته قَالَ لَهُ : أَلَمْ أَكُنْ قَاسَمْتُك الْمَال نِصْفَيْنِ فَمَا صَنَعْت بِمَالِك ؟ .

قَالَ : اِشْتَرَيْت بِهِ مِنْ اللَّه تَعَالَى مَا هُوَ خَيْر مِنْهُ وَأَبْقَى . فَقَالَ : أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ , مَا أَظُنّ السَّاعَة قَائِمَة وَمَا أَرَاك إِلَّا سَفِيهًا , وَمَا جَزَاؤُك عِنْدِي عَلَى سَفَاهَتك إِلَّا الْحِرْمَان , أَوَمَا تَرَى مَا صَنَعْت أَنَا بِمَالِي حَتَّى آلَ إِلَيَّ مَا تَرَاهُ مِنْ الثَّرْوَة وَحُسْن الْحَال , وَذَلِكَ أَنِّي كَسَبْت وَسَفِهْت أَنْتَ , اُخْرُجْ عَنِّي .

ثُمَّ كَانَ مِنْ قِصَّة هَذَا الْغَنِيّ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآن مِنْ الْإِحَاطَة بِثَمَرِهِ وَذَهَابهَا أَصْلًا بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهَا مِنْ السَّمَاء مِنْ الْحُسْبَان .

وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ هَذِهِ الْقِصَّة بِلَفْظٍ آخَر , وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . قَالَ عَطَاء : كَانَا شَرِيكَيْنِ لَهُمَا ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار . وَقِيلَ : وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا وَكَانَا أَخَوَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا , فَاشْتَرَى أَحَدهمَا أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَار , فَقَالَ صَاحِبه : اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا قَدْ اِشْتَرَى أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَار وَإِنِّي اِشْتَرَيْت مِنْك أَرْضًا فِي الْجَنَّة بِأَلْفِ دِينَار فَتَصَدَّقَ بِهَا , ثُمَّ إِنَّ صَاحِبه بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَار فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَار وَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْك دَارًا فِي الْجَنَّة بِأَلْفِ دِينَار , فَتَصَدَّقَ بِهَا , ثُمَّ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْف دِينَار , فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ اِمْرَأَة بِأَلْفِ دِينَار وَإِنِّي أَخْطُب إِلَيْك مِنْ نِسَاء الْجَنَّة بِأَلْفِ دِينَار , فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَار . ثُمَّ اِشْتَرَى خَدَمًا وَمَتَاعًا بِأَلْفِ دِينَار , وَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْك خَدَمًا وَمَتَاعًا مِنْ الْجَنَّة بِأَلْفِ دِينَار , فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَار . ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَة شَدِيدَة فَقَالَ : لَعَلَّ صَاحِبِي يَنَالنِي مَعْرُوفه فَأَتَاهُ فَقَالَ : مَا فَعَلَ مَالُك ؟ فَأَخْبَرَهُ قِصَّته فَقَالَ : وَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ بِهَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه لَا أُعْطِيك شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَنْتَ تَعْبُد إِلَه السَّمَاء , وَأَنَا لَا أَعْبُد إِلَّا صَنَمًا ; فَقَالَ صَاحِبه : وَاَللَّه لَأَعِظَنَّهُ , فَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ وَخَوَّفَهُ . فَقَالَ : سِرْ بِنَا نَصْطَدْ السَّمَك , فَمَنْ صَادَ أَكْثَر فَهُوَ عَلَى حَقّ ; فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي إِنَّ الدُّنْيَا أَحْقَر عِنْد اللَّه مِنْ أَنْ يَجْعَلهَا ثَوَابًا لِمُحْسِنٍ أَوْ عِقَابًا لِكَافِرٍ . قَالَ : فَأَكْرَهَهُ عَلَى الْخُرُوج مَعَهُ , فَابْتَلَاهُمَا اللَّه , فَجَعَلَ الْكَافِر يَرْمِي شَبَكَته وَيُسَمِّي بِاسْمِ صَنَمه , فَتَطْلُع مُتَدَفِّقَة سَمَكًا . وَجَعَلَ الْمُؤْمِن يَرْمِي شَبَكَته وَيُسَمِّي بِاسْمِ اللَّه فَلَا يَطْلُع لَهُ فِيهَا شَيْء ;

فَقَالَ لَهُ : كَيْفَ تَرَى أَنَا أَكْثَر مِنْك فِي الدُّنْيَا نَصِيبًا وَمَنْزِلَة وَنَفَرًا , كَذَلِكَ أَكُون أَفْضَل مِنْك فِي الْآخِرَة إِنْ كَانَ مَا تَقُول بِزَعْمِك حَقًّا . قَالَ : فَضَجَّ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِهِمَا , فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيل أَنْ يَأْخُذهُ فَيَذْهَب بِهِ إِلَى الْجِنَان فَيُرِيه مَنَازِل الْمُؤْمِن فِيهَا , فَلَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ قَالَ : وَعِزَّتك لَا يَضُرّهُ مَا نَالَهُ مِنْ الدُّنْيَا بَعْد مَا يَكُون مَصِيره إِلَى هَذَا ; وَأَرَاهُ مَنَازِل الْكَافِر فِي جَهَنَّم فَقَالَ : وَعِزَّتك لَا يَنْفَعهُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الدُّنْيَا بَعْد أَنْ يَكُون مَصِيره إِلَى هَذَا . ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى تَوَفَّى الْمُؤْمِن وَأَهْلَكَ الْكَافِر بِعَذَابٍ مِنْ عِنْده , فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ الْمُؤْمِن فِي الْجَنَّة وَرَأَى مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَصْحَابه يَتَسَاءَلُونَ , فَقَالَ : " إِنِّي كَانَ لِي قَرِين . يَقُول أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ " [ الصَّافَّات : 51 ] الْآيَة ; فَنَادَى مُنَادٍ : يَا أَهْل الْجَنَّة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ إِلَى جَهَنَّم فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم ; فَنَزَلَتْ " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا " .

بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى حَال الْأَخَوَيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي هَذِهِ السُّورَة , وَبَيَّنَ حَالهمَا فِي الْآخِرَة فِي سُورَة " الصَّافَّات " فِي قَوْله " إِنِّي كَانَ لِي قَرِين . يَقُول أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ - إِلَى قَوْله - لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " [ الصَّافَّات : 51 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَكَرَ إِبْرَاهِيم بْن الْقَاسِم الْكَاتِب فِي كِتَابه فِي عَجَائِب الْبِلَاد أَنَّ بُحَيْرَة تِنِّيس كَانَتْ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ , وَكَانَتَا لِأَخَوَيْنِ فَبَاعَ أَحَدهمَا نَصِيبه مِنْ الْآخَر فَأَنْفَقَ فِي طَاعَة اللَّه حَتَّى عَيَّرَهُ الْآخَر , وَجَرَتْ بَيْنهمَا الْمُحَاوَرَة فَغَرَّقَهَا اللَّه تَعَالَى فِي لَيْلَة , وَإِيَّاهَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَة . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّة , وَلَيْسَ بِخَبَرٍ عَنْ حَال مُتَقَدِّمَة , لِتَزْهَد فِي الدُّنْيَا وَتَرْغَب فِي الْآخِرَة , وَجَعَلَهُ زَجْرًا وَإِنْذَارًا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَسِيَاق الْآيَة يَدُلّ عَلَى خِلَاف هَذَا , وَاَللَّه أَعْلَم .

وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ

أَيْ أَطَفْنَاهُمَا مِنْ جَوَانِبهمَا بِنَخْلٍ . وَالْحِفَاف الْجَانِب , وَجَمْعه أَحِفَّة ; وَيُقَال : حَفَّ الْقَوْم بِفُلَانٍ يَحُفُّونَ حَفًّا , أَيْ طَافُوا بِهِ ; وَمِنْهُ " حَافِّينَ مِنْ حَوْل الْعَرْش " [ الزُّمَر : 75 ] .

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

أَيْ جَعَلْنَا حَوْل الْأَعْنَاب النَّخْل , وَوَسَط الْأَعْنَاب الزَّرْع


****************
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا

"كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ" كِلْتَا مُفْرَد يَدُلّ عَلَى التَّثْنِيَة مُبْتَدَأ "آتَتْ" خَبَره "أُكُلهَا" ثَمَرهَا "وَلَمْ تَظْلِم" تَنْقُص "وَفَجَّرْنَا" أَيْ شَقَقْنَا "خِلَالهمَا نَهَرًا" يَجْرِي بَيْنهمَا

تفسير الجيلالين

*************
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ


قَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَعَاصِم وَيَعْقُوب وَابْن أَبِي إِسْحَاق " ثَمَر " بِفَتْحِ الثَّاء وَالْمِيم , وَكَذَلِكَ قَوْله " وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ " [ الْكَهْف : 42 ] جَمْع ثَمَرَة . قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ : الثَّمَرَة وَاحِدَة الثَّمَر وَالثَّمَرَات , وَجَمْع الثَّمَر ثِمَار ; مِثْل جَبَل وَجِبَال . قَالَ الْفَرَّاء : وَجَمْع الثِّمَار ثُمُر ; مِثْل كِتَاب وَكُتُب , وَجَمْع الثَّمَر أَثْمَار ; مِثْل أَعْنَاق وَعُنُق . وَالثَّمَر أَيْضًا الْمَال الْمُثَمَّر ; يُخَفَّف وَيُثَقَّل . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو " وَكَانَ لَهُ ثُمْر " بِضَمِّ الثَّاء وَإِسْكَان الْمِيم , وَفَسَّرَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَال . وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا فِي الْحَرْفَيْنِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : ذَهَب وَفِضَّة وَأَمْوَال . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " نَحْو هَذَا مُبَيَّنًا . ذَكَرَ النَّحَّاس : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن شُعَيْب قَالَ أَخْبَرَنِي عِمْرَان بْن بَكَّار قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْعَلَاء الزُّبَيْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْب بْن إِسْحَاق قَالَ هَارُون قَالَ حَدَّثَنِي أَبَان عَنْ ثَعْلَب عَنْ الْأَعْمَش أَنَّ الْحَجَّاج قَالَ : لَوْ سَمِعْت أَحَدًا يَقْرَأ " وَكَانَ لَهُ ثُمُر " لَقَطَعْت لِسَانه ; فَقُلْت لِلْأَعْمَشِ : أَتَأْخُذُ بِذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا ! وَلَا نِعْمَة عَيْن . فَكَانَ يَقْرَأ " ثُمُر " وَيَأْخُذهُ مِنْ جَمْع الثَّمَر . قَالَ النَّحَّاس : فَالتَّقْدِير عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنَّهُ جَمْع ثَمَرَة عَلَى ثِمَار , ثُمَّ جَمْع ثِمَار عَلَى ثَمَر ; وَهُوَ حَسَن فِي الْعَرَبِيَّة إِلَّا أَنَّ الْقَوْل الْأَوَّل أَشْبَه وَاَللَّه أَعْلَم ; لِأَنَّ قَوْله " كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلهَا " يَدُلّ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرًا .

فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ

أَيْ يُرَاجِعهُ فِي الْكَلَام وَيُجَاوِبهُ . وَالْمُحَاوَرَة الْمُجَاوَبَة , وَالتَّحَاوُر التَّجَاوُب . وَيُقَال : كَلَّمْته فَمَا أَحَارَ إِلَيَّ جَوَابًا , وَمَا رَجَعَ إِلَيَّ حَوِيرًا وَلَا حَوِيرَة وَلَا مَحُورَة وَلَا حِوَارًا ; أَيْ مَا رَدَّ جَوَابًا .

أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

النَّفَر : الرَّهْط وَهُوَ مَا دُون الْعَشَرَة . وَأَرَادَ هَاهُنَا الْأَتْبَاع وَالْخَدَم وَالْوَلَد , حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه .


*************

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ

قِيلَ : أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُؤْمِن يُطِيف بِهِ فِيهَا وَيُرِيه إِيَّاهَا .

وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ

أَيْ بِكُفْرِهِ , وَهُوَ جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال . وَمَنْ أَدْخَلَ نَفْسه النَّار بِكُفْرِهِ فَهُوَ ظَالِم لِنَفْسِهِ .

قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا

أَنْكَرَ فَنَاء الدَّار .

******************

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً

أَيْ لَا أَحْسِب الْبَعْث كَائِنًا .

وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي

أَيْ وَإِنْ كَانَ بَعْث فَكَمَا أَعْطَانِي هَذِهِ النِّعَم فِي الدُّنْيَا فَسَيُعْطِينِي أَفْضَل مِنْهُ لِكَرَامَتِي عَلَيْهِ ;

لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا

وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَمَّا دَعَاهُ أَخُوهُ إِلَى الْإِيمَان بِالْحَشْرِ وَالنَّشْر . وَفِي مَصَاحِف مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالشَّام " مِنْهُمَا " . وَفِي مَصَاحِف أَهْل الْبَصْرَة وَالْكُوفَة " مِنْهَا " عَلَى التَّوْحِيد , وَالتَّثْنِيَة أَوْلَى ; لِأَنَّ الضَّمِير أَقْرَب إِلَى الْجَنَّتَيْنِ .


**************

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ

يَهُوذَا أَوْ تمليخا ; عَلَى الْخِلَاف فِي اِسْمه .

أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا

وَعَظَهُ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا اِعْتَرَفَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يُنْكِرهَا أَحَد أَبْدَع مِنْ الْإِعَادَة . و " سَوَّاك رَجُلًا " أَيْ جَعَلَك مُعْتَدِل الْقَامَة وَالْخَلْق , صَحِيح الْأَعْضَاء ذَكَرًا .

*********************

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي

كَذَا قَرَأَهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة . وَرُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ " لَكِنَّ هُوَ اللَّه " بِمَعْنَى لَكِنَّ الْأَمْر هُوَ اللَّه رَبِّي , فَأَضْمَرَ اِسْمهَا فِيهَا . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " لَكِنَّا " بِإِثْبَاتِ الْأَلِف . قَالَ الْكِسَائِيّ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , تَقْدِيره : لَكِنَّ اللَّه هُوَ رَبِّي أَنَا , فَحُذِفَتْ الْهَمْزَة مِنْ " أَنَا " طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال وَأُدْغِمَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَحُذِفَتْ أَلِف " أَنَا " فِي الْوَصْل وَأُثْبِتَتْ فِي الْوَقْف . وَقَالَ النَّحَّاس : مَذْهَب الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَالْمَازِنِيّ أَنَّ الْأَصْل لَكِنَّ أَنَا فَأُلْقِيَتْ حَرَكَة الْهَمْزَة عَلَى نُون لَكِنَّ وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة وَأُدْغِمَتْ النُّون فِي النُّون فَالْوَقْف عَلَيْهَا لَكِنَّا وَهِيَ أَلِف أَنَا لِبَيَانِ الْحَرَكَة . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْأَصْل لَكِنَّ أَنَا , فَحُذِفَتْ الْأَلِف فَالْتَقَتْ نُونَانِ فَجَاءَ بِالتَّشْدِيدِ لِذَلِكَ ," هُوَ اللَّه رَبِّي " " هُوَ " ضَمِير الْقِصَّة وَالشَّأْن وَالْأَمْر ; كَقَوْلِهِ " فَإِذَا هِيَ شَاخِصَة أَبْصَار الَّذِينَ كَفَرُوا " [ الْأَنْبِيَاء : 97 ] وَقَوْله : " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " [ الْإِخْلَاص : 1 ] .

وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا

دَلَّ مَفْهُومه عَلَى أَنَّ الْأَخ الْآخَر كَانَ مُشْرِكًا بِاَللَّهِ تَعَالَى يَعْبُد غَيْره . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ لَا أَرَى الْغِنَى وَالْفَقْر إِلَّا مِنْهُ , وَأعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُب صَاحِب الدُّنْيَا دُنْيَاهُ قَدَرَ عَلَيْهِ ; وَهُوَ الَّذِي آتَانِي الْفَقْر . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ جُحُودك الْبَعْث مَصِيره إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَقْدِر عَلَيْهِ , وَهُوَ تَعْجِيز الرَّبّ سُبْحَانه وَتَعَالَى , وَمَنْ عَجَّزَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ ; فَهُوَ إِشْرَاك .

*****************

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ

أَيْ بِالْقَلْبِ , وَهُوَ تَوْبِيخ وَوَصِيَّة مِنْ الْمُؤْمِن لِلْكَافِرِ وَرَدّ عَلَيْهِ , إِذْ قَالَ " مَا أَظُنّ أَنْ تَبِيد هَذِهِ أَبَدًا " [ الْكَهْف : 35 ] و " مَا " فِي مَوْضِع رَفْع , تَقْدِيره : هَذِهِ الْجَنَّة هِيَ مَا شَاءَ اللَّه . وَقَالَ الزَّجَّاج وَالْفَرَّاء : الْأَمْر مَا شَاءَ اللَّه , أَوْ هُوَ مَا شَاءَ اللَّه ; أَيْ الْأَمْر مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : الْجَوَاب مُضْمَر , أَيْ مَا شَاءَ اللَّه كَانَ , وَمَا لَا يَشَاء لَا يَكُون .

لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ

أَيْ مَا اِجْتَمَعَ لَك مِنْ الْمَال فَهُوَ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَقُوَّته لَا بِقُدْرَتِك وَقُوَّتك , وَلَوْ شَاءَ لَنَزَعَ الْبَرَكَة مِنْهُ فَلَمْ يَجْتَمِع .

قَالَ أَشْهَب قَالَ مَالِك : يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِله أَنْ يَقُول هَذَا . وَقَالَ اِبْن وَهْب قَالَ لِي حَفْص بْن مَيْسَرَة : رَأَيْت عَلَى بَاب وَهْب بْن مُنَبِّه مَكْتُوبًا " مَا شَاءَ اللَّه لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ " . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَة : ( أَلَا أَدُلّك عَلَى كَلِمَة مِنْ كُنُوز الْجَنَّة - أَوْ قَالَ كَنْز مِنْ كُنُوز الْجَنَّة ) قُلْت : بَلَى يَا رَسُول اللَّه , قَالَ ( لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ إِذَا قَالَهَا الْعَبْد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى . وَفِيهِ :

. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ مَنْزِله أَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَقَالَ : بِاسْمِ اللَّه مَا شَاءَ اللَّه لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ تَنَافَرَتْ عَنْهُ الشَّيَاطِين مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ الْبَرَكَات .

وَقَالَتْ عَائِشَة : إِذَا خَرَجَ الرَّجُل مِنْ مَنْزِله فَقَالَ بِاسْمِ اللَّه قَالَ الْمَلَك هُدِيت , وَإِذَا قَالَ مَا شَاءَ اللَّه قَالَ الْمَلَك كُفِيت , وَإِذَا قَالَ لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ قَالَ الْمَلَك وُقِيت .

. وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا خَرَجَ الرَّجُل مِنْ بَاب بَيْته أَوْ بَاب دَاره كَانَ مَعَهُ مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ بِهِ فَإِذَا قَالَ بِاسْمِ اللَّه قَالَا هُدِيت وَإِذَا قَالَ لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ قَالَا وُقِيت وَإِذَا قَالَ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّه قَالَا كُفِيت قَالَ فَيَلْقَاهُ قَرِينَاهُ فَيَقُولَانِ مَاذَا تُرِيدَانِ مِنْ رَجُل قَدْ هُدِيَ وَوُقِيَ وَكُفِيَ ) . وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه فِي عُلُوم الْحَدِيث : سُئِلَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة عَنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَحَاجَّتْ الْجَنَّة وَالنَّار فَقَالَتْ هَذِهِ - يَعْنِي الْجَنَّة - يَدْخُلنِي الضُّعَفَاء ) مَنْ الضَّعِيف ؟ قَالَ : الَّذِي يُبَرِّئ نَفْسه مِنْ الْحَوْل وَالْقُوَّة يَعْنِي فِي الْيَوْم عِشْرِينَ مَرَّة أَوْ خَمْسِينَ مَرَّة .

وَقَالَ أَنَس بْن مَالِك قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه لَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرّهُ عَيْن ) . وَقَدْ قَالَ قَوْم : مَا مِنْ أَحَد قَالَ مَا شَاءَ اللَّه كَانَ فَأَصَابَهُ شَيْء إِلَّا رَضِيَ بِهِ .

وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَرْبَعًا أَمِنَ مِنْ أَرْبَع : مَنْ قَالَ هَذِهِ أَمِنَ مِنْ الْعَيْن , وَمَنْ قَالَ حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل أَمِنَ مِنْ كَيْد الشَّيْطَان , وَمَنْ قَالَ وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اللَّه أَمِنَ مَكْر النَّاس , وَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ أَمِنَ مِنْ الْغَمّ .

إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا

" إِنْ " شَرْط " تَرَنِ " مَجْزُوم بِهِ , وَالْجَوَاب " فَعَسَى رَبِّي " و " أَنَا " فَاصِلَة لَا مَوْضِع لَهَا مِنْ الْإِعْرَاب . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب تَوْكِيدًا لِلنُّونِ وَالْيَاء . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنْك " بِالرَّفْعِ ; يَجْعَل " أَنَا " مُبْتَدَأ و " أَقَلّ " خَبَره , وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع الْمَفْعُول الثَّانِي , وَالْمَفْعُول الْأَوَّل النُّون وَالْيَاء ; إِلَّا أَنَّ الْيَاء حُذِفَتْ لِأَنَّ الْكَسْرَة تَدُلّ عَلَيْهَا , وَإِثْبَاتهَا جَيِّد بَالِغ وَهُوَ الْأَصْل لِأَنَّهَا الِاسْم عَلَى الْحَقِيقَة .


****************

فَعَسَى رَبِّي

بِمَعْنَى لَعَلَّ أَيْ فَلَعَلَّ رَبِّي .

أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ

أَيْ فِي الْآخِرَة . وَقِيلَ فِي الدُّنْيَا .

وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا

أَيْ عَلَى جَنَّتك .

حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا

أَيْ مَرَامِي مِنْ السَّمَاء , وَاحِدهَا حُسْبَانَة ; وَالْحُسْبَانَة السَّحَابَة , وَالْحُسْبَانَة الْوِسَادَة , وَالْحُسْبَانَة الصَّاعِقَة . وَالْحُسْبَان ( بِالضَّمِّ ) : الْعَذَاب . وَقَالَ أَبُو زِيَاد الْكِلَابِيّ : أَصَابَ الْأَرْض حُسْبَان أَيْ جَرَاد . وَالْحُسْبَان أَيْضًا الْحِسَاب , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الشَّمْس وَالْقَمَر بِحُسْبَانٍ " [ الرَّحْمَن : 5 ] . وَقَدْ فُسِّرَ الْحُسْبَان هُنَا بِهَذَا . قَالَ الزَّجَّاج : الْحُسْبَان مِنْ الْحِسَاب ; أَيْ يُرْسِل عَلَيْهَا عَذَاب الْحِسَاب , وَهُوَ حِسَاب مَا اِكْتَسَبَتْ يَدَاك ; فَهُوَ مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف . وَالْحُسْبَان أَيْضًا : سِهَام قِصَار يُرْمَى بِهَا فِي طَلْق وَاحِد , وَكَانَ مِنْ رَمْي الْأَكَاسِرَة . وَالْمَرَامِي مِنْ السَّمَاء عَذَاب . " فَتُصْبِح صَعِيدًا زَلَقًا " يَعْنِي أَرْضًا بَيْضَاء لَا يَنْبُت فِيهَا نَبَات وَلَا يَثْبُت عَلَيْهَا قَدَم , وَهِيَ أَضَرّ أَرْض بَعْد أَنْ كَانَتْ جَنَّة أَنْفَع أَرْض ; و " زَلَقًا " تَأْكِيد لِوَصْفِ الصَّعِيد ; أَيْ تَزِلّ عَنْهَا الْأَقْدَام لِمَلَاسَتِهَا . يُقَال : مَكَان زَلَق ( بِالتَّحْرِيكِ ) أَيْ دَحْض , وَهُوَ فِي الْأَصْل مَصْدَر قَوْلك : زَلِقَتْ رِجْله تَزْلَق زَلَقًا , وَأَزْلَقَهَا غَيْره . وَالزَّلَق أَيْضًا عَجْز الدَّابَّة . وَالْمُزْلَقَة : الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَثْبُت عَلَيْهِ قَدَم . وَكَذَلِكَ الزَّلَّاقَة . وَالزَّلْق الْحَلْق , زَلَقَ رَأْسه يَزْلِقهُ زَلْقًا حَلَقَهُ ; وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهَا تَصِير مَزْلَقَة , بَلْ الْمُرَاد أَنَّهَا لَا يَبْقَى فِيهَا نَبَات كَالرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَعْر ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ .

************

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا

أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا , فَتَكُون أَعْدَم أَرْض لِلْمَاءِ بَعْد أَنْ كَانَتْ أَوْجَدَ أَرْض لِلْمَاءِ . وَالْغَوْر مَصْدَر وُضِعَ مَوْضِع الِاسْم ;وَقِيلَ : أَوْ يُصْبِح مَاؤُهَا ذَا غَوْر ; فَحَذَفَ الْمُضَاف ; مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ]

فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا

أَيْ لَنْ تَسْتَطِيع رَدّ الْمَاء الْغَائِر , وَلَا تَقْدِر عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ . وَقِيلَ : فَلَنْ تَسْتَطِيع طَلَب غَيْره بَدَلًا مِنْهُ . وَإِلَى هَذَا الْحَدِيث اِنْتَهَتْ مُنَاظَرَة أَخِيهِ وَإِنْذَاره .


******************
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ

أَيْ أُهْلِك مَاله كُلّه . وَهَذَا أَوَّل مَا حَقَّقَ اللَّه تَعَالَى بِهِ إِنْذَار أَخِيهِ .

فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا

أَيْ فَأَصْبَحَ الْكَافِر يَضْرِب إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى نَدَمًا ; لِأَنَّ هَذَا يَصْدُر مِنْ النَّادِم . وَقِيلَ : يُقَلِّب مِلْكه فَلَا يَرَى فِيهِ عِوَض مَا أَنْفَقَ ; وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْك قَدْ يُعَبَّر عَنْهُ بِالْيَدِ , مِنْ قَوْلهمْ : فِي يَده مَال , أَيْ فِي مِلْكه مَال . وَدَلَّ قَوْله " فَأَصْبَحَ " عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِهْلَاك جَرَى بِاللَّيْلِ ; كَقَوْلِهِ " فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِف مِنْ رَبّك وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ " [ الْقَلَم : 19 , 20 ] وَيُقَال : أَنْفَقْت فِي هَذِهِ الدَّار كَذَا وَأَنْفَقْت عَلَيْهَا .

وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا

أَيْ خَالِيَة قَدْ سَقَطَ بَعْضهَا عَلَى بَعْض ; وَيُقَال سَاقِطَة ; كَمَا يُقَال فَهِيَ خَاوِيَة عَلَى عُرُوشهَا أَيْ سَاقِطَة عَلَى سُقُوفهَا ; فَجَمَعَ عَلَيْهِ بَيْن هَلَاك الثَّمَر وَالْأَصْل , وَهَذَا مِنْ أَعْظَم الْجَوَانِح , مُقَابَلَة عَلَى بَغْيه .

وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي

أَيْ يَا لَيْتَنِي عَرَفْت نِعَم اللَّه عَلَيَّ , وَعَرَفْت أَنَّهَا كَانَتْ بِقُدْرَةِ اللَّه وَلَمْ أَكْفُر بِهِ . وَهَذَا نَدَم مِنْهُ حِين لَا يَنْفَعهُ النَّدَم .


**************

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ

أَيْ فِرْقَة وَجَمَاعَة يَلْتَجِئ إِلَيْهِمْ .

وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا

أَيْ مُمْتَنِعًا .
أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَشِيرَة يَمْنَعُونَهُ مِنْ عَذَاب اللَّه , وَضَلَّ عَنْهُ مَنْ اِفْتَخَرَ بِهِمْ مِنْ الْخَدَم وَالْوَلَد .

**************

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ

أَيْ لَهُ الْمُلْك وَالْحُكْم يَوْمئِذٍ , أَيْ لَا يُرَدّ أَمْره إِلَى أَحَد ; وَالْمُلْك فِي كُلّ وَقْت لِلَّهِ وَلَكِنْ تَزُول الدَّعَاوَى وَالتَّوَهُّمَات يَوْم الْقِيَامَة .

هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا

أَيْ اللَّه خَيْر ثَوَابًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِمَنْ آمَنَ بِهِ , وَلَيْسَ ثَمَّ غَيْر يُرْجَى مِنْهُ , وَلَكِنَّهُ أَرَادَ فِي ظَنّ الْجُهَّال ; أَيْ هُوَ خَيْر مَنْ يُرْجَى .

وَخَيْرٌ عُقْبًا

قَرَأَ عَاصِم وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَيَحْيَى " عُقْبًا " سَاكِنَة الْقَاف , الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا , وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِد ; أَيْ هُوَ خَيْر عَافِيَة لِمَنْ رَجَاهُ وَآمَنَ بِهِ . يُقَال : هَذَا عَاقِبَة أَمْر فُلَان وَعُقْبَاهُ وَعُقْبه , أَيْ آخِره .




>>>>>>>>>>>>> يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:35 pm

الآن نتأمل الأيات السابقة بشي من الشرح والتفصيل :



وهي للشيخ الشعراوي :


1- الصبر في الدعوة :

(واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً "27")

أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها، وأخبرك الله بها فأجبتهم، اعلم أن لك رباً رفيقاً بك، لا يتخلى عنك ولا يتركك لكيدهم، فإن أرادوا أن يصنعوا لك مأزقاً أخرجك الله منه، وإياك أن تظن أن العقبات التي يقيمها خصومك ستؤثر في أمر دعوتك.
وإن أبطأت نصرة الله لك فاعلم أن الله يريد أن يمحص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمر بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا من هو مأمون على حمل هذه العقيدة.

الصبر على الطاعة وملازمة الأتقياء:

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً "28")

نزلت هذه الآية في "أهل الصفة" وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم، لماذا لا يعلمون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: نريد أن تلتفت إلينا، وأن تترك هؤلاء المجاذيب، و اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لأن مدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن

{تريد زينة الحياة الدنيا .. "28"}

لأنك إن فعلت ذلك وانصرفت عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها.
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصفة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يقوي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دينهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرب إليه.
لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصفة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قلة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أسوة تذكر الناس وتكبح جماح تطلعاتهم إلى الدنيا.

{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا .. "28"}

لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا من غفل عن ذكر الله، أما من اطمأن قلبه إلى ذكرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصفة، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم، فكيف يأمر بالانصراف عنهم؟

<وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله: "أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه ..">

فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يدع. وقوله تعالى:

{واتبع هواه .. "28"}

أي: أن هذا الذي يحرضك على أهل الصفة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله، فمادام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله، إنه مشغول بمطلوب نفسه؛

<لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به">

فالمؤمن الحق سليم الإيمان من كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله، لا يحيد عنه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى:

{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .. "71"}


وقوله تعالى:

{وكان أمره فرطاً "28"}

أي: كان أمره ضياعاً وهباءً، فكأنه أضاع نفسه.



واذكر هنا من بحثي اضافة لما قاله الشعراوي : من هم اهل الصفة ؟


الصُّفَّةُ " الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَمَالِيِّ الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ يَأْوِي إلَيْهَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَلَا مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حِينَ آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَبَايَعَهُمْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ عِنْدَ مِنًى وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارُ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ جَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ بِهَا صِنْفَيْنِ : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهَا مِنْ بِلَادِهِمْ وَالْأَنْصَارَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ . وَآخَرُونَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ لِمَنْعِ أَكَابِرِهِمْ لَهُمْ بِالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَآخَرُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ المستظهرين عَلَيْهِمْ .

فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْصَارِ بِأَهْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ عَلَى أَنْ يُؤْوُوهُمْ وَيُوَاسُوهُمْ وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ اقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُ [ عِنْدَهُ ] مِنْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَالَفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى بَيْنَهُمْ ثُمَّ صَارَ الْمُهَاجِرُونَ يَكْثُرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ فِيهِ .

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْكُفَّارَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِسَرَايَاهُ فَيُسْلِمُ خَلْقٌ تَارَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَتَارَةً ظَاهِرًا فَقَطْ وَيَكْثُرُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْعُزَّابِ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ يَأْوِي إلَى تِلْكَ الصُّفَّةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَهَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى مَكَانٍ آخَرَ يَتَيَسَّرُ لَهُ . وَيَجِيءُ نَاسٌ بَعْدَ نَاسٍ فَكَانُوا تَارَةً يَقِلُّونَ وَتَارَةً يَكْثُرُونَ فَتَارَةً يَكُونُونَ عَشْرَةً أَوْ أَقَلَّ وَتَارَةً يَكُونُونَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَأَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُونَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ . وَأَمَّا جُمْلَةُ مَنْ أَوَى إلَى الصُّفَّةِ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَدْ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قِيلَ : كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .



3- الاقرار بالربوبية


(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29")
قوله تعالى:

{وقل الحق من ربكم .. "29"}

أي: قل الحق جاء من ربكم، واختار كلمة الرب ولم يقل من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق
{من ربكم .. "29"}

أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم ورباكم وتعهدكم هو الذي نزل لكم هذا الحق
والحق: هو الشيء الثابت، ومادام من الله فلن يغيره أحد؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مقبلاً، وبعد ذلك يعدل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يخفي عليه شيء ولا يعزب عن عمله شيء، لذلك لا استدراك على حكم من أحكامه من أحد من خلقه.
فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدك بالنعم، وهو الذي يربيك كما يربي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تقيد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يقيد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها ليس لها مطلوبات.
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره: بماذا أمرك معبودك؟ وعما نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن: فلهم أن يقولوا: نعم هذا الإله، ونعم هذا الدين؛ لأنه يتركني بحريتي افعل ما أريد.
لذلك؛ نجد الذين يدعون ألوهية، أو يدعون نبوة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعب على الناس؛ لأن فيها حجراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعت سجاح النبوة خفف الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟
وما أشبه مدعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعرض من الدنيا، فيفتون الناس بتحليل ما حرم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإن كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى من يخفف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم، وترى الواحد منهم يكذب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد.
إذن: مادمتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل: (اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي)، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قل لهم: لا جبر في الإيمان

4- الحرية في الإختيار بين الإيمان والكفر

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. "29"}

لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم.

وقد جاء في الحديث القدسي: "إنكم لن تملكوا نفعي فتنعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
"ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر، وذلك أني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقوله له كن فيكون".
إذن: فائدة الإيمان تعود على المؤمن، كما قال تعالى:

{من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .. "46"}
(سورة فصلت)

لكني أحب لخلقي أن يكونوا دائماً على خير مني، فأنا أعطيهم خير الدنيا، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة.
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى:

{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. "28"}

وكان خصوم الإسلام حينما يرون الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها، لا من جهتهم بالعدوان على من يؤمن، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه وفداً، قالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، لقد أدخلت على قومك ما لم يدخله أحد قبلك، شتمت آلهتنا وسفهت أحلامنا وسببت ديننا، فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك علينا، وجعلناك رئيسنا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك.

<فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما بي ما تقولون، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم، فإن أنتم أطعتم فبها، وإلا فإن الله ناصري عليكم">

<وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سراً يتساهل فيه رسول الله، فلما لم يجدوا بغيتهم قالوا: نتوسل إليك بمن تحب، فربما خجل أن يقبل منا ونحن خصومه، فلنرسل إليه من يحبه، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، فلما كلمه عمه قال قولته المشهورة: "والله، يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه">

وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29")

فالأمر هنا ليس على حقيقته، وإنما هو للتسوية والتهديد، أي: سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا، فأنتم أحرار في هذه المسألة؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم، فالله سبحانه غني عنكم وعن إيمانكم، وكذلك خلق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم، فاستغناء الله عنكم مسحوب على استغناء الرسول، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم.

5- التهويل والتفخيم للعذاب

ثم يقول الحق سبحانه:

{إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها .. "29"}


والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تهول الآية وتفخم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوا عن أسبابها، إذن: فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خوف العذاب سيمنعهم من الجريمة.
ومعنى (أعتدنا) أي: أعددنا، فالمسألة منتهية مسبقاً، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومعدة ومجهزة، لا أنها ستعد في المستقبل، وقد أعدت إعداد قادر حكيم، فأعد الله الجنة لتتسع لكل الخلق إن آمنوا، وأعد النار لتتسع لكل الخلق إن كفروا، فإن آمن بعض الخلق وكفر البعض، فالذي آمن وفر مكانه في النار، والذي كفر وفر مكانه في الجنة.


{للظالمين .. "29"}


والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حق الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم، ثم لأنك الظلم فيما دون ذلك، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قدر ظلمه، إلا أن يكون مشركاً. فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتر عنه، فإن ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يعذب به، ثم يدخله الله الجنة، إن لم يتب، وإن لم يغفر الله له.
وقوله تعالى:

{أحاط بهم سرادقها .. "29"}

السرادق، كما نقول الآن: أقاموا السرادق أي: الخيمة. و معنى سرادق: أي محيط بهم، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خال من النار؛ لأن رؤيته لمكان خال من النار قد توحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أن يؤيسهم من الخروج. ثم يقول تعالى:

{وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29"}

الاستغاثة: صرخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم، كما قال في آية أخرى:

{ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي .. "22"}

أي: حين تصرخون من العذاب لا أستطيع أن أزيل صراخكم، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي.
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب (يغاثوا) يتبادر إلى الذهن أنهم يغاثون بشيء من رحمة الله، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يخفف عنهم العذاب .. لا.

{يغاثوا بماء كالمهل .. "29"}

أي: فإن طلبوا الغوث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار، فإذا بهم بماء كالمهل.
والمهل هو عكارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدردي، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غلي الماء، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار، ويعذبون من حيث ينتظرون الرحمة.
وقوله تعالى هنا: (يغاثوا) أسلوب تهكمي؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أن تخاطب المخاطب على مقتضى حاله، فتهنئه حال فرحه، وتعزيه حال حزنه بكلام موافق لمقتضى الحال، فإن أخرجت المقتضى عن الحال الذي يطلبه، فهذا ينافي البلاغة إلا إن أردت التهكم أو الاستهزاء.



6- الربط بين الايمان والعمل الصالح (الأيمان بالله هو الموجه للسلوك القويم )

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا "30"}

وليكن في الاعتبار أن المتكلم رب حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجح أن يكون الإيمان أولاً وأن يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أن "درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة".


وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العمل الصالح؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان، وفائدة الإيمان أن توثق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنت به؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدة من كتاب الله،

7- انتفاء الظلم عن الله

{إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً "30"}


نلاحظ أن (من) هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يقل سبحانه: إنا لا نضيع أجر من احسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يحسن العمل قد يكون كافراً، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حقه، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا.
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يحرم ثمرة عمله واجتهاده، لكنها تعجل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حظ له في الآخرة.




8 - الترغيب بالجزاء للمؤمنين

(أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً "31")
(أولئك) أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات

{لهم جنات عدنٍ "31"}
(سورة الكهف)

الجنات رأينا منها صورة في الدنيا، وتطلق إطلاقاً شرعياً وإطلاقاً لغوياً. أما الشرعي: فهو الذي نعرفه من أنها الدار التي أعدها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة. أما المعنى اللغوي: فهي المكان الذي فيه زرع وثمار وأشجار تواري من سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الاستتار والاختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات لا ترى والجنة بالضم الدرع يستر الجسم عن المهاجم .. الخ.
وقلنا: إن الحق سبحانه حينما يحدثنا عن شيء غيبي يحدثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ، واللغة التي نتكلم بها، يوجد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدال عليه، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فإن نطق اللفظ نفهم معناه. فإذا كانت الأشياء التي يحدثنا الله عنها غيباً

<كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر">

إذن: فمن أين نأتي بالألفاظ الدالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يعبر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا، لكن يعطيها الوصف الذي يميزها عن جنة الدنيا، كما جاء في قوله تعالى:

{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ .. "15"}
(سورة محمد)

ونحن نعرف النهر، ونعرف الماء، لكن يأتي قوله: (غير آسن) ليميز ماء الدنيا، وكذلك في:

{أنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين .. "15"}
(سورة محمد)

فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها، فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميزها بأنها لذة، وخمر الدنيا ليست كذلك؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة، فبها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، والعين إدراكاتها أقل من إدراكات الأذن؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك، ثم يقول: "ولا خطر على قلب بشر" فوسع دائرة ما في الجنة، مما لا نستطيع إدراكه.

انتهى


سنتحدث بعد ذلك عن القصة بالتفصيل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:35 pm

فوائد وحكم من القصة الثانية في سورة الكهف :



1- من الجمال الملاحظ في الايات هو ارتباط القصة بما سبق واختيار الكلمة المناسبة للحدث ... وكيف لا وهو كلام احكم الحاكمين ...كلام رب العالمين

حيث يقول الشعراوي:


واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32")

ومازال الكلام موصولاً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وبذلك انقسم الناس إلى قسمين: قسم متكبر حريص على جاهه وسلطانه، وقسم ضعيف مستكين لا جاه له ولا سلطان، لكن الحق سبحانه يريد استطراق آياته استطراقاً يشمل الجميع، ويسوي بينهم.
لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً موجوداً في الحياة، ففي الناس الكافر الغني والمؤمن الفقير، وعليك أن تتأمل موقف كل منهما. قوله تعالى:

{واضرب لهم مثلاً رجلين .. "32"}

قلنا: إن الضرب معناه أن تلمس شيئاً بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه، ولابد أن يكون الضارب أقوى من المضروب، إلا فلو ضربت بيدك شيئاً أقوى منك فقد ضربت نفسك، ومن ذلك قول الشاعر:
ويا ضارباً بعصاه الحجر ضربت العصا أم ضربت الحجر؟
وضرب المثل يكون لإثارة الانتباه والإحساس، فيخرجك من حالة إلى أخرى، كذلك المثل: الشيء الغامض الذي لا تفهمه ولا تعيه، فيضرب الحق سبحانه له مثلاً يوضحه وينبهك إليه؛ لذلك قال:

والحق تبارك وتعالى قال:

{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها .. "26" } (سورة البقرة)

ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالاً كثيرة لتوضيح قضايا معينة، كما في قوله تعالى:

{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون "41"}
(سورة العنكبوت)

وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به:

{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً .. "92"}
(سورة النحل)



2- ارجاع النعم الى المنعم سبحانه وتعالى وشكره عليها والحذر من الإفتتان بالمال (هذه الفتنة الثانية في السورة بعد فتنة الفتوة )


رجلين .. "32"}

أي: هل محل المثل:

{جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32"}

هل هذا المثل كان موجوداً بالفعل، وكان للرجلين وجود فعلي في التاريخ؟
نعم، كانوا واقعاً عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا، وكان يهوذا مؤمنا راضياً، وبراكوس كان مستغنياً، وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلاف دينار لكل منهما، أخذ براكوس نصيبه واشترى به أرضاً يزرعها وقصراً يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية، أما يهوذا، فقد رأى أن يتصدق بنصيبه، وأن يشتري به أرضاً في الجنة وقصراً في الجنة وفضل الحور العين والولدان في جنة عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها. وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتر به،

(هنا القصة اختلف فيه كما سبق واشرت في بداية تفسير القصة .... والإتفاق واضح وهو الذي يهمنا ان القصة وقعت سواء قبل زمن الرسول من ابني اسرائيل او في زمانه من العرب )

وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعم، وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرة جهدك وعملك، ونتيجة سعيك ومهارتك، كما قال قارون:

{قال إنما أوتيته على علم عندي .. "78"}
(سورة القصص)

فتركه الله لعلمه ومهارته، فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوة:

{فخسفنا به وبداره الأرض .. "81"}


ولم ينفعه ماله أو علمه. إذن: هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع: كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه، ومؤمن قنوع بما قسم الله له. وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالى:

{جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32"}

فقد علمنا الله تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سوراً من النخيل ليكون سياجاً يصد الهواء والعواصف، وذكر سبحانه النخيل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت الضروري، كما ذكر من قبل الأساور من ذهب، وهي للزينة قبل الثياب، وهي من الضروريات. وقوله:

{جنتين .. "32"}

نراها إلى الآن فيمن يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته؛ لأن للإنسان مسكناً خاصاً، وله عموميات أحباب، فيجعل لهم مسكناً آخر حتى لا يطلع أحد على حريمه؛



3- على قدر العمل يثُمر الأجر والعطاء ...

(كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهراً "33")
أي: أعطت الثمرة المطلوبة منها، والأكل: هو ما يؤكل، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئاً اليوم، وشيئاً غداً، وشيئاً بعد غد وهكذا.

{ولم تظلم منه شيئاً .. "33"}


كلمة (تظلم) تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقاً، ولا تهدر لك تعباً، فإن أعطيتها جهدك وعملك جادت عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً، وتضع فيها البذرة الواحدة فتغل عليك الآلاف.
إذن: فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حرثٍ وبذر ورعاية وسقيا، وقد تريحك السماء، فتسقى لك. لذلك، لما أراد الحق سبحانه أن يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال:

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبةٍ .. "261"}
(سورة البقرة)

فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض؟ لاشك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها:

{والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم "261"}
(سورة البقرة)

إذن: فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أن تعطيك على قدر تعبك وكدك فيها، والحق سبحانه أيضاً يقدر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود،

<والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال: "هذه يد يحبها الله ورسوله">

يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قدر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملت لها وللآخرين، وإلا لو عمل كل عامل على قدر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟
إذن: فعلى أصحاب القدرة والطاقة أن يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهب أنك لن تتصدق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حد ذاته نوع من التيسير على الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تجزل لك العطاء إن بررت بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإن كنت جاحداً، وكذلك الأرض ألا تراها تخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرمتها بالبر؟ لاشك ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الأرض ليست أمنا على وجه التشبيه، بل هي أمنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخر محب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر. ثم يقول تعالى:

{وفجرنا خلالهما نهراً "33"}


ذلك لأن الماء هو أصل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما.


(وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً "34")

أي: لم يقتصر الأمر على أن كان له جنتان فيهما النخيل والأعناب والزرع الذي يؤتي أكله، بل كان له فوق ذلك ثمر أي: موارد أخرى من ذهب وفضة وأولاد؛ لأن الولد ثمرة أبيه، وسوف يقول لأخيه بعد قليل: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. ثم تدور بينهما هذه المحاورة:

{فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً "34"}


دليل على أن ما تقدم ذكره من أمر الجنتين وما فيهما من نعم دعته إلى الاستعلاء هو سبب القول (لصاحبه)، والصاحب هو: من يصاحبك ولو لم تكن تحبه (يحاوره) أي: يجادله بأن يقول أحدهما فيرد عليه الآخر حتى يصلوا إلى نتيجة.



4- بيان حقيقة النفس الإنسانية وفطرتها

(ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً"35")

نقول: لأن الإنسان إن كان له جنتان فلن يدخلهما معاً في وقت واحد، بل حال دخوله سوف يواجه جنة واحدة، ثم بعد ذلك يدخل الأخرى. وقوله:

{وهو ظالم لنفسه .. "35"}

قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يرخي لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويفوت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه؛ لأن النفس لها جانبان: نفس تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة.
فالمسألة ـ إذن ـ جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون: أعدي أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبته، فإن قلت: كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأملت لوجدت أنك ساعة تحدث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه؛ لأن بداخلك شخصيتين: شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإن مالت النفس الشهوانية أو انحرفت قومتها النفس الفطرية وعدلت من سلوكها.
لذلك قلنا: إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عمت المعصية في الناس، ولم يعد هناك من ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولاً يرشدهم ويذكرهم، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سبحان حملهم رسالة نبيهم، وجعل هدايتهم بأيديهم، وأخرج منهم من يحملون راية الدعوة إلى الله؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يعم، فإن وجد من بين هذه الأمة العاصون، ففيها أيضاً الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مسألة ضرورية، وأساس يقوم عليه المجتمع الإسلامي. ثم يقول تعالى:

{قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً "35"}


فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ لا، لأنها جنته يدخلها كما يشاء، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره، وما حدث نفسه به حال دخوله، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغنى، والغرور بالنعمة، فقال: ما أظن أن تبيد هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غره واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم، ليس هذا وفقط، بل دعاه غروره إلى أكثر فقال:

(وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلباً "36") هكذا أطلق لغروره العنان،
لذلك ما أنكر قيام الساعة هزته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا:

{ولئن رددت إلى ربي .. "36"}
أي: على كل حال إن رددت إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أعد له ما هو افضل من هذا. ونقف لنتأمل قول هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها:

{ولئن رددت إلى ربي .. "36"}
حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه، فإن كنت كذوباً فكن ذكوراً، لا تناقض نفسك، فما حدث منك من استعلاء وغرور وشك في قيام الساعة يتنافى وقولك (ربي) ولا يناسبه.



5- الحرص على ابداء الحقيقة والنصح للاخرين والتقريع اللطيف ان لزم الامر مع اجلاء الحقائق

(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً"37")

هنا يرد عليه صاحبه المؤمن محاوراً ومجادلاً ليجلي له وجه الصواب:

{أكفرت بالذي خلقك من ترابٍ .. "37"}

أي: كلامك السابق أنا أنا، وما أنت فيه من استعلاء وإنكار، أتذكر هذا كله ولا تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خلقك

{ثم من نطفةٍ .. "37"}

وهي أصل التناسل

{ثم سواك رجلاً "37"}

أي: كاملاً مستوياً و

{سواك .. "37"}
(سورة الكهف)

التسوية: هي إعداد الشيء إعداداً يناسب مهمته في الحياة، وقلنا: إن العود الحديد السوي مستقيم، والخطاف في نهايته أعوج، والاعوجاج في الخطاف هو عين استقامته واستواء مهمته؛ لأن مهمته أن نخطف به الشيء، ولو كان الخطاف هذا مستقيماً لما أدى مهمته المرادة. والهزة في

{أكفرت .. "37"}
(سورة الكهف)

ليست للاستفهام، بل هي استنكار لما يقوله صاحبه، وما بدر منه من كفر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خلقه.
والتراب هو أصل الإنسان، وهو أيضاً مرحلة من مراحل خلقه؛ لأن الله تعالى ذكر في خلق الإنسان مرة (من ماء) ومرة (من تراب) ومرة (من حمأ مسنون) ومرة (من صلصال كالفخار).
لذلك يعترض البعض على هذه الأشياء المختلفة في خلق الإنسان، والحقيقة أنها شيء واحد، له مراحل متعددة انتقالية، فإن أضفت الماء للتراب صار طيناً، فإذا ما خلطت الطين بعضه ببعض صار حمأ مسنوناً، فإذا تركته حتى يجف ويتماسك صار صلصالاً، إذن: فهي مرحليات لشيء واحد. ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن

*******

(لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً "38") قوله:

{لكنا .. "38"}

أي: أنا، فحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون. ولكن للاستدراك، المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه: أنا لست مثلك فيما تذهب إليه، فإن كنت قد كفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة. ثم سواك رجلاً، فأنا لم أكفر بمن خلقني، فقولي واعتقادي الذي أومن به:

{هو الله ربي .. "38"}
(سورة الكهف)

وتلاحظ أن الكافر لم يقل: الله ربي، إنما جاءت ربي على لسانه في معرض الحديث، والفرق كبير بين القولين؛ لأن الرب هو الخالق المتولي للتربية، وهذا أمر لا يشك فيه أحد، ولا اعتراض عليه، إنما الشك في الإله المعبود المطاع، فالربوبية عطاء، ولكن الألوهية تكليف؛ لذلك اعترف الكافر بالربوبية، وأنكر الألوهية والتكليف.
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول:

{ولا أشرك بربي أحداً "38"}

ولم يكتف المؤمن بأن أبان لصاحبه ما هو فيه من الكفر، بل أراد أن يعدي إيمانه إلى الغير، فهذه طبيعة المؤمن أن يكون حريصاً على هداية غيره، لذلك بعد أن أوضح إيمانه بالله تعالى أراد أن يعلم صاحبه كيف يكون مؤمناً، ولا يكمل إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لأن المؤمن صحيح سلوكه بالنسبة للآخرين، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يصحح سلوك الكافر بالإيمان.
لذلك من الخير بدل أن تدعو على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لأن دعاءك عليه سيزيد من شقائك به، وهاهو يدعو صاحبه،

*******

(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولداً"39")
يريد أن يعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة، بأن يرد النعم إلى المنعم؛ لأن النعمة التي يتقلب فيها الإنسان لا فضل له فيها، فكلها موهوبة من الله، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتت أكلها؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك، وعندما حرثتها حرثتها بآلة من الخشب أو الحديد، وهو موهوب من الله لا دخل لك فيه، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تسلب منك في أي وقت، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء.
إذن: حينما تنظر إلى كل هذه المسائل تجدها منتهية إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه. خذ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصنعة، من أين أتى الصناع بمادته؟ لو تتبعت هذا لوجدته قطعة خشب من إحدى الغابات، ولو سألت الغابة: من أين لك هذا الخشب لأجابتك من الله.

إذن: لو حللت أي نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله، وموهوب منه سبحانه. وحتى بعد أن ينمو الزرع ويزهر أو يثمر لا تأمن أن تأتيه آفة أو تحل به جائحة فتهلكه




6- الحرص على عدم الحسد للاخرين او للنفس بل حفظها بذكر الله وارجاع النعم للمنعم

ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. "39"}


(لولا) بمعنى: هلا وهي للحث التحضيض، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

<وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قيل عند نعمة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت">

فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألا تلهيك النعمة عن المنعم، كان عليك أن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أي: أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي، بل فضل من الله فترد النعمة إلى خالقها ومسديها، ومادمت قد رددت النعمة إلى خالقها فقد استأمنته عليها واستحفظته إياها، وضمنت بذلك بقاءها.

فإن قلتها على نعمتك حفظت ونمت، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها. والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا، رغم ما يتقلب فيه من نعيمها، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن تقول:

{ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. "39"}


ويستطرد المؤمن، فيبين لصاحبه ما عيره به من أنه فقير وهو غني، وما استعلى عليه بماله وولده:

{إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً "39"}
(سورة الكهف)

ثم ذكره بأن الله تعالى قادر على أن يبدل هذا الحال،

********

فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقاً"40")

وعسى للرجاء، فإن كان الرجاء من الله فهو واقع لاشك فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) يعطيك الله خيراً مما قلت عليه: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وإن اعترفت بنعمة الله عليك ورددت الفضل إليه سبحانه زادك، كما جاء في قوله تعالى:

{لئن شكرتم لأزيدنكم "7"}
(سورة إبراهيم)

فقوله:

{فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك .. "40"}
(سورة الكهف)

أي: ينقل مسألة الغنى والفقر ويحولها، فأنت لا قدرة لك على حفظ هذه النعمة، كما أنك لا قدرة لك على جلبها من البداية. إذن: يمكن أن يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك، في حين تظل نعمتك كما هي، لكن إرادة الله تعالى أن يقلب نعمتك ويزيلها:

{ويرسل عليها حسبانا من السماء .. "40"}
(سورة الكهف)

هذه النعمة التي تعتز بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على خلق الله يمكن أن يرسل الله عليها حسباناً.
والحسبان: الشيء المحسوب المقدر بدقة وبحساب، كما جاء في قوله تعالى:

{الشمس والقمر بحسبانٍ "40"}
(سورة الرحمن)

والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت:

{لتع
وحسب حسباناً مثل غفر غفراناً، وقد أرس الله على هذه الجنة التي اغتر بها صاحبها صاعقة محسوبة مقدرة على قدر هذه الجنة لا تتعداها إلى غيرها، حتى لا يقول: إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري .. لا. إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
ثم يقول تعالى:

{فتصبح صعيدا زلقا "40"}
(سورة الكهف)

أي: أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار، المليئة بالنخيل والأعناب بعد أن أصابتها الصاعقة
أصبحت صعيداً أي: جدباء يعلوها التراب،
أي: تراباً مبللاً تنزلق عليه الأقدام، فلا يصلح لشيء، حتى المشي عليه

******

(أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلباً"41")
(غوراً) أي: غائراً في الأرض، فإن قلت: يمكن أن يكون الماء غائراً، ونستطيع إخراجه بالآلات مثلاً، لذلك يقطع أمله في أي حيلة يفكر فيها:
فلن تستطيع له طلباً
أي: لن تصل إليه بأي وسيلة من وسائلك، ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى:

{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين "30"}
(سورة الملك)

لاحظ أن هذا الكلام من المؤمن لصاحبه الكافر مجرد رجاء يخاطبه به:

{فعسى ربي .. "40"}
(سورة الكهف)

رجاء لم يحدث بعد، ولم يصل إلى إيقاعيات القدر.



7- الإيضاح بجزاء الإشراك بالله والغرور والكبرياء بمحق البركة وعقاب الله سبحانه وتعالى

(وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42")
هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ، وكأن الله تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه

{وأحيط بثمره "42"}
(سورة الكهف)

أحيط: كأن جعل حول الثمر سوراً يحيط به، فلا يكون له منفذ،
ولم يقل مثلاً: أحيط بزرعه أو بنخله؛ لأن الإحاطة قد تكون بالشيء، ثم يثمر بعد ذلك، لكن الإحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته، وهو قريب الجني قريب التناول، وبذلك تكون الفاجعة فيه أشد، والثمر هو الغاية والمحصلة النهائية للزرع.

ثم يصور الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأسفه عليها:

{فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها "42"}
(سورة الكهف)

أي: يضرب كفاً بكف، كما يفعل الإنسان حينما يفاجئه أمر لا يتوقعه، فيقف مبهوتاً لا يدري ما يقول، فيضرب كفاً بكف لا يتكلم إلا بعد أن يفيق من هول هذه المفاجأة ودهشتها. ويقلب كفيه على أي شيء؟ يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها

{وهي خاوية على عروشها "42"}
(سورة الكهف)

خاوية: أي خربة جرداء جدباء،

{ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42"}


بعد أن ألجمته الدهشة عن الكلام، فراح يضرب كفاً بكف، أفاق من دهشته، ونزع هذا النزوع القولي الفوري:

{يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42"}


يتمنى أنه لم يشرك بالله أحداً؛ لأن الشركاء الذين اتخذهم من دون الله لم ينفعوه،

*********

(ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً "43")
أي: ليس لديه أعوان ونصراء يدفعون عنه هذا الذي حل به، ويمنعون عنه الخراب الذي حاق بجنته

{وما كان منتصراً "43"}
(سورة الكهف)

أي: ما كان ينبغي له أن ينتصر، ولا يجوز له الانتصار، لماذا؟

***********

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

هنالك: أي في وقت الحالة هذه، وقت أن نزلت الصاعقة من السماء فأتت على الجنة، وجعلتها خاوية على عروشها، هناك تذكر المنعم وتمنى لو لم يشرك بالله، فقوله: (هنالك) أي: في الوقت الدقيق وقت القمة، قمة النكد والكدر.
و(هنالك) جاءت في القرآن في الأمر العجيب، ويدعو إلى الأمر الأعجب،

و(الولاية) أن يكون لك ولي ينصرك، فالولي هو الذي يليك، ويدافع عنك وقت الشدة، وفي قراءة أخرى: (هناك الولاية) بكسر الواو يعني الملك، كما في قوله:

{هو خير ثواباً "44"}
(سورة الكهف)

لأنه سيجازي على العمل الصالح بثواب، هو خير من الدنيا وما فيها

{وخير عقباً "44"}
(سورة الكهف)

أي: خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد.
هكذا ضرب الله تعالى لنا مثلاً، وأوضح لنا عاقبة الغني الكافر، والفقير المؤمن، وبين لنا أن الإنسان يجب ألا تخدعه النعمة ولا يغره النعيم؛ لأنه موهوب من الله، فاجعل الواهب المنعم سبحانه دائماً على بالك، كي يحافظ لك على نعمتك وإلا لكنت مثل هذا الجاحد الذي استعلى واغتر بنعمة الله فكانت عاقبته كما رأيت.
وهذا مثل في الأمر الجزئي الذي يتعلق بالمكلف الواحد، ولو نظرت إليه لوجدته يعم الدنيا كلها؛ فهو مثال مصغر لحال الحياة الدنيا

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئي إلى المثل العام والذي سنتحدث عنه في الرد التالي بأذن الله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:36 pm

ساكمل الايات ...



(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً"45")

الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما علم لدينا. وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبه حال الدنيا في قصرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوت به الأرض، وأنبتت ألواناً من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبل هذا النبات ويصير هشيماً متفتتاً تذهب به الريح.

وهكذا الدنيا تبدو جميلة مزهرة مثمرة حلوة نضرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دنيا وهو اسم يوحي بالحقارة، وإلا فأي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عليا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: كما ضربت لهم مثل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها. ومعنى

{فاختلط به نبات الأرض "45"}


أي: اختلط بسببه نبات الأرض، وتداخل بعضه في بعض، وتشابكت أغصانه وفروعه، وهذه صورة النبات في الأرض الخصبة، أما إن كانت الأرض مالحة غير خصبة فإنها تخرج النبات مفرداً، عود هنا وعود هناك.
لكن، هل ظل النبات على حال خضرته ونضارته؟ لا، بل سرعان ما جف وتكسر وصار هشيماً تطيح به الريح وتذروه

ثم يقول تعالى:
{وكان الله على كل شيء مقتدراً "45"}

لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضده،
فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام، فلا تنفك عنه صفة القدرة أبداً، أحيا وأمات، وأعز وأذل، وقبض وبسط، وضر ونفع .. ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغتر ب
ماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد



(المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46")
تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا: المال والبنون، لكن لماذا قدم المال؟ أهو أغلى عند الناس من البنين؟ نقول: قدم الحق سبحانه المال على البنين، ليس لأنه أعز أو أغلى؛ إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين، فكل إنسان لديه المال وإن قل، أما البنون فهذه خصوصية، ومن الناس من حرم منها.
كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل وينجب، إذن: كل واحد له مال، وليس لكل واحد بنون، والحكم هنا قضية عامة، وهي:

{المال والبنون زينة الحياة الدنيا .. "46"}

كلمة (زينة) أي: ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قسم له يعيش حياته سعيداً بدون مال، وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يرزق هذا المال أو هذا الولد.
وقد باتت مسألة الإنجاب عقدة مشكلة عند كثير من الناس، فترى الرجل كدراً مهموماً؛ لأنه يريد الولد ليكون له عزوة وعزة، وربما يزرق الولد ويرى الذل على يديه، وكم من المشاكل تثار في البيوت؛ لأن الزوجة لا تنجب.
ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع

<وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، فقال: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه ـ أي: لا يهدد أمنه أحد ـ وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها">

فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان ـ إذن ـ يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى. ثم يقول تعالى:

{والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"}


لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات.

<والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أهديت إليه شاة، وكانت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف؛ لأنه لحم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظت لرسول الله بالكتف وتصدقت بالباقي، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: "ماذا صنعت في الشاة"؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "بل بقيت كلها إلا كتفها">

<وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت">

{والباقيات .. "46"}
مادام قال (والباقيات) فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكن من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار.

{والباقيات الصالحات خير .. "46"}

خير عند من؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه، فخيرك غير خير من هو أغنى منك، غير خير الحاكم، فما بالك بخير عند الله؟

{خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"}

والأمل: ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكن به حالته، فإن كان عنده خير تطلع إلى أعلى منه، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى، كل هذا يبين لنا أن هذه الدنيا زائلة، وأننا ذاهبون إلى يوم باقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها




(ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً"47")

أي: اذكر جيداً يوم نسير الجبال وتنتهي هذه الدنيا، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنسير الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجرمها، وقوتها وصلابتها، وهي باقية على حالها.
ومعنى تسيير الجبال: إزالتها عن أماكنها
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه للجبال ويزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أولى.
ثم يقول سبحانه:
{وترى الأرض بارزة "47"}
(سورة الكهف)

الأرض: كل ما أقلك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويظلك فهو سماء، ومعنى: (بارزة) البراز: هو الفضاء، أي: وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض.
كل هذه الأشكال ذهبت لا وجود لها، فكأن الأرض برزت بعد أن كانت مختبئة: بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحت فضاء واسعاً، ليس فيه معلم لشيء.

{وحشرناهم "47"}


أي: جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لدن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء.
{فلم نغادر منهم أحداً "47"}


أي: لم نترك منهم واحداً، الكل معرض على الله، وكلمة (نغادر) ومادة (غدر) تؤدي جميعها معنى الترك، فالغدر مثلاً ترك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سمي غديراً؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ.



(وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً"48")

العرض: أن يستقبل العارض المعروض استقبالاً منظماً يدل على كل هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً، فيرى كل واحد من جنوده (صفاً) أي: صفوفاً منتظمة، حتى الملائكة تأتي صفوفاً،

أي: أنها عملية منظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفر، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يخفي فيها صف الصف الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله.
ثم يقول تعالى:

{لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرةٍ "48"}
(سورة الكهف)
أي: على الحال التي نزلت عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك
وقوله تعالى:
{بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً "48"}
(سورة الكهف)

والخطاب هنا موجه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب (زعمتم) والزعم مطية الكذب.



(ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحداً"49")
قوله تعالى:

{ووضع الكتاب "49"}
أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي ـ إذن ـ صور متعددة، فمن أخذ كتابه بيمينه فرح وقال:

{هاؤم اقرءوا كتابيه "19"}
(سورة الحاقة)
يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مشرف ليس فيه ما يخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته
وهذا بخلاف من أوتي كتابه بشماله فإنه يقول:

{يا ليتني لم أوت كتابيه "25" ولم أدر ما حسابيه "26" يا ليتها كانت القاضية "27" ما أغنى عني ماليه "28" هلك عني سلطانيه "29"}
(سورة الحاقة)
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مخجلة.

{فترى المجرمين مشفقين مما فيه "49"}
أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه ليفزع عباده ويحذرهم ويضخم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول:

{ويقولون يا ويلتنا "49"}
يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانك فاحضري.
قوله تعالى:
{ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها "49"}
أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدها وحسبها.

{ووجدوا ما عملوا حاضرا "49"}
فكل ما فعلوه مسجل مسطر في كتبهم

{ولا يظلم ربك أحداً "49"}
لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه.



(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً"50")

تكررت قصة سجود الملائكة لآدم ـ عليه السلام ـ كثيراً في القرآن الكريم، وفي كل مرة تعطينا الآيات لقطة معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أن تذكروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أن يغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذا العداوة، فإذا حدثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يحذرنا من إبليس فإنه يربي فينا المناعة التي نقاومه بها، والمناعة أن تأتي بالشيء الذي يضر مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يعود الجسم على مدافعة المرض وتغلب عليه إذا أصابه.

فانتبهوا مادمنا سنسير الجبال، ونسوي الأرض، ونحصر لكل كتابه، فاحذروا أن تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تفاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وهاأنا أذكركم من الآن في وقت السعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأن تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة:

{وإذ قلنا للملائكة .. "50"}

لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمركم أن تكونوا في خدمته. لذلك سماهم: المدبرات أمراً، وقال تعالى عنهم:

{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله .. "11"}
(سورة الرعد)

فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جند هؤلاء الملائكة وهم أشرف المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أولى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعله في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على من دونهم.
وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحسمته، فقال تعالى:

{إلا إبليس كان من الجن .. "50"}
وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يوضح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة. ومادام كان من الجن، وهم جنس مختار في أن يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألا يفعل:
{ففسق عن أمر ربه .. "50"}
أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر. وقوله تعالى:

{أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو .. "50"}
فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أولى بهذه الولاية.

{وذريته .. "50"}
تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل من كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس

{بئس للظالمين بدلاً "50"}
أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أن يسجد لأبيكم ولياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أن تسجد لأبيكم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:36 pm


(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً"51")

إن هذا الشيطان الذي وليتموه من دون الله، وأعطيتموه الميزة، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض مجرد المشاهدة، لم يحضروها لأن خلق السماوات والأرض كان قبل خلقهم، وكذلك ما شهدوا خلق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خلقتهم لم يكونوا موجودين، إنهم لم يشهدوا شيئاً من ذلك لكي يخبروكم.

{وما كنت متخذ المضلين عضداً "51"}
أي: مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخلق وما عاونوني فيه.
والعضد: هو القوة التي تسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عضد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قبضاً وبسطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، وكل هذه الحركات لابد لها من منظم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آيات عظمى تدل على دقة الصنعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يحرك هذه الآلة، أما أنت فتحرك يدك كما شئت دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تفكر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مسخرة لإرادتك، فإن أردت القيام مثلاً قمت على الفور؛ لذلك إياك أن تظن أنك خلق ميكانيكي، بل أنت صنعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يوقف جزءاً منك أمر المخ أن يقطع صلته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دفعه أو إصلاحه.

***********

(ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً"52")

يعني: واذكر يا محمد، ولتذكر معك أمتك هذا اليوم:
{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم .. "52"}
يقول الحق سبحانه للكفار: ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني. وزعمتم: أي: كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة
{فدعوهم فلم يستجيبوا لهم .. "52"}
وهذا ما سماجتهم وتبجحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه، فكان عليهم أن يخجلوا من الله، ويعودوا إلى الحق، ويعترفوا بما كذبوه، لكنهم تمادوا
{فدعوهم .. "52"}
ويجوز أن من الشركاء أناساً دون التكليف، وأناساً فوق التكليف، فمثلاً منهم من قالوا: عيسى. ومنهم من قالوا: العزيز، وهذا باطل، وهل استجابوا لهم؟
ومنهم من اتخذوا آلهة أخرى، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها، ومنهم من عبد ناساً مثلهم وأطاعوهم، وهؤلاء كانوا موجودين معهم، ويصح أنهم دعوهم ونادوهم: تعالوا، جادلوا عنا، وأخرجونا مما نحن فيه، لقد عبدناكم وكنا طوع أمركم، كما قال تعالى عنهم:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. "3"}
(سورة الزمر)
ولكن، أني لهم ما يريدون؟ فقد تقطعت بينهم الصلات، وانقطعت حجتهم

{فلم يستجيبوا لهم .. "52"}
ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو وادياً سحيقا:

{وجعلنا بينهم موبقاً .. "52"}
والموبق: المكان الذي يحصل فيه الهلاك، وهو واد من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، أو: أن بين الداعي والمدعو مكاناً مهلكاً، فلا الداعي يستطيع أن يلوذ بالمدعو، ولا المدعو يستطيع أن ينتصر للداعي ويسعفه، لأن بينهم منبع هلاك.

*********

(ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً"53")
رأى: الرؤية: وقوع البصر على المرئي، والرؤية هنا ممن سيعذب في النار، وقد تكون الرؤية من النار التي ستعذبهم؛ لأنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم، كما قال تعالى:

{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيدٍ "30"}
(سورة ق)

أي: هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملاقاتهم؟
والمجرمون: الذين ارتكبوا الجرائم، وعلى رأسها الكفر بالله. إذن: فالرؤية هنا متبادلة: المعذب والمعذب، كلاهما يرى الآخر ويعرفه. وقوله تعالى:

{فظنوا أنهم مواقعوها .. "53"}
الظن هنا يراد منه اليقين. أي: أيقنوا أنهم واقعون فيها،

{ولم يجدوا عنها مصرفاً "53"}
أي: في حين أن بينهما موبقاً، وأيضاً لا يجدون مفراً يفرون منه، أو ملجأ يلجئون إليه، أو مكاناً ينصرفون إليه بعيداً عن النار، فالموبق موجود، والمصرف مفقود.

*********

(ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً"54")

سبق أن تكلمنا عن تصريف الآيات، وقلنا: إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة، كما يصرف الله الرياح مثلاً، فلا تأتي من ناحية واحدة، بل تأتي مرة من هنا، ومرة من هناك، كذلك صرف الله الأمثال. أي: أتى بأحوال متعددة وصور شتى منها.
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائباً عنهم، فيمثله بأمر واضح لهم محس ليتفهموه تفهماً دقيقاً.
ومادام أن الحق سبحانه صرف في هذا القرآن من كل مثل، فلا عذر لمن لم يفهم، فالقرآن قد جاء على وجوه شتى ليعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فهمه، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بغيته، بل وأكثر من ذلك، فالمتخصص في أي علم من العلوم يجد في كتاب الله أدق التفاصيل؛ لأن الحق سبحانه بين فيه كل شيء.


ثم يقول تعالى:
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً "54"}
أي: كثير الخصومة والتنازع في الرأي، والجدل: هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صدق مذهبه وكلامه، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأ، وهذا هو الجدل المعيب القائم على الأهواء. وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البناء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وهذا بعيد كل البعد عن التحيز للهوى أو الأغراض.

{وجادلهم بالتي هي أحسن .. "125"}
والنبي صلى الله عليه وسلم لما مر على علي وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ ليوقظهما لصلاة الفجر، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى، ويبدو أنها كانا مستغرقين في نوم عميق، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم "ألا تصلون؟" فرد الإمام علي قائلاً: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
{وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً "54"}
لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة، ويحاول أن يدلل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ ولو دققت في رأيه لوجدت له هوى يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه، وترى ذلك واضحاً إذا اخترت أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلاً لأنه أسهلها وأقربها، فإذا به يقترح عليك طريقاً آخر، ويحاول إقناعك به بكل السبل، والحقيقة أن له غرضاً في نفسه وهوى يريد الوصول إليه.

*********

(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً"55")

ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن، وصرفنا فيه من الآيات والأمثال، بعد أن جاءهم مطابقاً لكل الأحوال؟

والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم، ثم لم يؤمنوا بها يهلكهم؛ لذلك قال بعدها:

{إلا أن يأتيهم سنة الأولين .. "55"}

فهذه هي الآية التي تنتظرهم: أن تأتيهم سنة الله في إهلاك من كذب الرسل.
فقبل الإسلام، كانت السماء هي التي تتدخل لنصرة العقيدة، فكانت تدك عليهم قراهم ومساكنهم، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نشر دعوته، إلا أمة محمد فقد أمنها على أن تحمل السيف لتؤدب الخارجين عن طاعة الله. وقوله تعالى:

{ويستغفروا ربهم .. "55"}
أي: على ما فات من المهاترات والتعنتات والاستكبار على قبول الحق

{إلا أن يأتيهم سنة الأولين .. "55"}
أي: بهلاك المكذبين

{أو يأتيهم العذاب قبلاً "55"}
أي مقابلاً لهم، وعياناً أمامهم، أو (قبلاً) جمع قبيل، وهي ألوان متعددة من العذاب


*********

(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً"56")

قلنا: إن الجدل قد يكون بالحق، وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا، فيجادلون بالباطل ويستخدمون كل الحيل لدحض الحق أي: ليعطلوه ويزيلوه

{واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً "56"}
أي: الآيات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل، وكذلك آيات القرآن، وآيات الأحكام اتخذوها سخرية واستهزاءً، ولم يعبأوا بما فيها من نذارة.

**********

(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً"57")

{ومن أظلم .. "57"}
جاء الخبر على صورة الاستفهام لتأكيد الكلام، كأن يدعي صاحبك أنك لم تصله، ولم تصنع معه معروفاً، فمن الممكن أن تقول له: صنعت معك كذا وكذا على سبيل الخبر منك، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
إنما لو عرضت المسألة على سبيل الاستفهام فقلت له: ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه الإقرار بذلك، وتقيم عليه الحجة من كلامه هو، وأنت لا تستفهم عن شيء من خصم إلا وأنت واثق أن جوابه لا يكون إلا بما تحب. وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الاستفهام:

{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه .. "57"}
وترك لنا الجواب لنقول نحن: لا أحد أظلم ممن فعل ذلك، والإقرار سيد الأدلة. وقوله

{فأعرض عنها .. "57"}
تركها

{ونسى ما قدمت يداه .. "57"}
نسى السيئات، وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه الآيات فيؤمن بها، فعل الله يتوب عليه بإيمانه، فيبدل سيئاته حسنات. ثم يقول تعالى:

{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه .. "57"}
أكنة: أغطية جمع كن، فجعل الله على قلوبهم أغطية، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، وليس هذا اضطهاداً منه تعالى لعباده، تعالى الله عن ذلك، بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبوا، فلما أحبوا الكفر وانشرحت به صدورهم زادهم منه؛ لأنه رب يعطي عبده ما يريد.

{أن يفقهوه .. "57"}
أي: يفهموه، يفهموا آيات الله؛ لأنهم سبق أن ذكروا بها فأعرضوا عنها، فحرمهم الله فقهها وفهمها. وقوله تعالى:

{وفي آذانهم وقراً .. "57"}
أي: صمم فلا يسمعون

{وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً "57"}
وهذا أمر طبيعي، بعد أن ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم، وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لأن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق، فيستقبلها قلبك بالرضا، فتنفعل لها جوارحك بالالتزام، فتسمع بالأذن، وتقبل بالقلب، وتنفعل بالجوارح طاعة والتزاماً بما أمرت به.
ومادام في الأذن وقر وصمم فلن تسمع، وإن سمعت شيئاً أنكره القلب، والجوارح لا تنفعل إلا بما شحن به القلب من عقائد.

********

(وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً"58")
فمن رحمة الله بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم؛ لأن لهم موعداً لن يهربوا منه، ولن يفلتوا، ولن يكون لهم ملجأ يحميهم منه، ولاشك أن في إمهالهم في الدنيا حكمة لله بالغة، ولعل الله يخرج من ظهور هؤلاء من يؤمن به، ومن يحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيراً في تاريخ الإسلام، فمن ظهر أبي جهل جاء عكرمة، وأمهل الله خالد بن الوليد، فكان أعظم قائد في الإسلام.

**********

(وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً"59")
تلك: أداة إشارة لمؤنث هي القرى، والكاف للخطاب، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته منضوية في خطابه؛ لأن خطاب الرسول خطاب لأمته. لكن الإشارة لا تكون إلا لشيء معلوم موجود محس،

فأين هذه القرى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
نعم، كان لهذه القرى آثار وأطلال تدل عليها ويراها النبي صلى الله عليه وسلم ويراها الناس في رحلاتهم إلى الشام وغيرها مثل: قرى ثمود قوم صالح، وقرى قوم لوط، وقد قال تعالى عنها:

{وإنكم لتمرون عليهم مصبحين "137" وبالليل أفلا تعقلون "138"}
(سورة الصافات)

إذن: فتلك إشارة إلى موجود محس دال بما تبقى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب الله، وما حل بها من بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين.
وكلمة (القرى) جمع قرية، وتطلق على المكان الذي تتوفر فيه مقومات الحياة وضرورياتها، بل بها ما يزيد على الضروريات ومقومات الحياة العادية؛ لأن القرية لا تطلق إلا على مكان تتسع فيه مقومات الحياة اتساعاً يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قرى. فإن كانت قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها أم، نسميها (أم القرى).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:37 pm

(وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً"60")

قوله تعالى:

{وإذ قال موسى لفتاه .. "60"}
أي: اذكر يا محمد وقت أن قال موسى لفتاه، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون، وكان من نسل يوسف ـ عليه السلام ـ وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه.

{لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"}
لكن، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد: أهو محق أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة: اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي: اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم: "في الغد أجيبكم".
إذن: إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تحسب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.
ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه.
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البطء في هذه المسألة دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لترد على مهاترات القوم، وتبين لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومن لف لفهم من كفار مكة: أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعاً له طلباً للعلم. جاءت الآيات لتقول لهم: يا من لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه، فكان من الواجب أن تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلام ـ يقال: إنه سأل الله ـ وكان له دلال على ربه:

{رب أرني أنظر إليك .. "143"}
(سورة الأعراف)
والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلمه:
{وما تلك بيمينك يا موسى "17"}
(سورة طه)
فأطال موسى الكلام مع ربه، ومن الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأنس بكلام الله؟ لذلك قال موسى:
{قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى "18"}
(سورة طه)
وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله: يا رب، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربه تبارك وتعالى: نعم في الأرض من هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مجمع البحرين.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلام ـ خطب مرة فسئل: من أعلم؟ فقال: أنا ـ يعني من البشر، فأخبره الله تعالى: لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتر موسى ـ عليه السلام ـ بما أعلمه الله.

ثم يقول تعالى:
{لا أبرح حتى أبلغ مبلغ البحرين .. "60"}
لا أبرح: أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني: لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني: لا أترك ما أنا بصدده، فإن كنت قاعداً لا أترك القعود، وإن كنت ماشياً لا أترك المشي، وقد قال موسى ـ عليه السلام ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهاً إليه، فيكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:
{فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي .. "80"}
(سورة يوسف)
قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أن يأتوا به ويعيدوه إليه.


و"مجمع البحرين" أي: موضع التقائهما، حيث يصيران بحراً واحداً، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شط العرب. وقوله:
{أو أمضي حقباً "60"}
الحقب: جمع حقبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلام ـ مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحقبة سبعون سنة.
ويكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سرت مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مشوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحي الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن علم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر.



(فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً"61")

(بلغا) أي: موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي: مجمع البحرين (نسيا حوتهما) أي: حدث النسيان منهما معاً، وإن كان حمل الحوت منوطاً بفتى موسى وقد نسيه، فكان على موسى أن يذكره به، فرئيس القوم لابد أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الركب، وكانت العادة أن يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحداً نسى شيئاً، إذن: كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير، ويذكر فتاه بما معهم من لوازم الرحلة.
والحوت: نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يطلقون على كل سمك حوتاً، وقد أعدوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل. وقوله تعالى:

{فاتخذ سبيله في البحر سرباً "60"}
خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرب نحو البحر، والسرب: مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول: تسرب الماء من القربة مثلاً؛ ذلك لأن مستوى الماء في القربة أعلى فيتسرب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشوي، وتعود له الحياة، ويتوجه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه.



(فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً"62") أي: جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد، قال موسى ـ عليه السلام ـ لفتاه: أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر، والنصب: هو التعب.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكر الفتى ما كان من نسيان الحوت


(قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً"63")

هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إذ لجأنا إلى الصخرة عند مجمع البحرين لنستريح

{فإني نسيت الحوت .. "63"}
ونلحظ أنه قال هنا (نسيت) وقال في الآية السابقة

{نسيا .. "61"}
ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى. فكلام الله تبارك وتعالى يدلنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذهنه بأشياء أخرى تنسيه ما هو منوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بدر منه من نسيان الحوت، ويقول:

{وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره .. "63"}
فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكر الحوت. وقوله تعالى:

{واتخذ سبيله في البحر عجباً "63"}
أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً، في الآية السابقة قال:

{سرباً "61"}
وهذه حال الحوت، وهنا يقول (عجباً) لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشوي تدب فيه الحياة حتى يقفز في المكتل، ويتجه صوب الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجت من المألوف.



(قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً"64")

أي: قال موسى ـ عليه السلام
{ذلك ما كنا نبغ .. "64"}
أي: نطلب، فهذا المكان الذي فقد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عرف عنوان المكان، وهو مجمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً.
وهذه الصورة لا توجد إلا في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد. ثم يقول تعالى:

{فارتدا على آثارهما قصصاً "64"}
أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قصاصو الأثر، ومعنى:

{قصصاً "64"}
أي: بدقة إلى أن وصلا إلى المكان الذي تسرب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى ـ عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصالح.

>>>>>>>>>>>
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:37 pm

(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً"65")

سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإن كانت لله تعالى فهي العز والشرف، وإن كانت لغير الله فهي الذل والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حظوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:
{سبحان الذي أسرى بعبده .. "1"}
(سورة الإسراء)
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خير عبده. ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال:
{آتيناه رحمة من عندنا .. "65"}
وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردت في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:

{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ "31"}
(سورة الزخرف)

فكان رد الله عليهم:

{أهم يقسمون رحمة ربك .. "32"}
(سورة الزخرف)

أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملك؛ لذلك قال تعالى:
{آتيناه .. "65"}
نحن، وقال:
{من عندنا .. "65"}
فالإتيان والعندية من الله مباشرة. ثم يقول بعدها:
{وعلمناه من لدنا علماً "65"}
أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرج على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، وينعم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أن نفرق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها علل باطنة فوق العلل الظاهرية، وهذه هي التي اختص الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تحرم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا علم له بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلة في خرق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:

{إنك لن تستطيع معي صبرا "67" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}

فهذا علم ليس عندك، فعلمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإن كان لعلم الولاية علل باطنة، ولعلم الرسالة علل ظاهرة.




(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا )
كأن موسى عليه السلام يعلمنا أدب تلقي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطف معه واستسمحه بهذا الأسلوب:

{هل أتبعك .. "66"}
والرشد: هو حسن التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دل هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:

{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .. "85"}
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
{وقل رب زدني علماً "114"}
لذلك يقول الشاعر:
كلما ازددت علوماً زدت إيقاناً بجهلي
لأن معنى أنه ازداد علماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلم غداً.
والإنسان حينما يكون واسع الأفق محباً للعلم، تراه كلما علم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نهم دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال".



(قال إنك لن تستطيع معي صبراً"67") هنا يبدأ العبد الصالح يملي شروط هذه الصحبة ويوضح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة علمه ومذهبه، فمذهبك غير مذهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا علم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عذراً على عدم صبره معه؛



(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً"68")
فلا تحزن لأني قلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خبر بها، وكيف تصبر على شيء لا علم لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ

أدب الحوار واختلاف الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبل رأي الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو ينكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويكفر بعضهم بعضاً، فإذا رأوا مثلاً عبداً من عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير. لقد تجلى في قول الخضر:

{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً "68"}
(سورة الكهف)

مظهر من مظاهر أدب المعلم مع المتعلم، حيث احترم رأيه، والتمس له العذر إن اعترض عليه، فلكل منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخر. فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟



(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمراً"69")

أي: أنا قابل لشروطك أيها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدم المشيئة فقال:

{إن شاء الله "69"}
ليستميله إليه ويحنن قلبه عليه

{صابراً .. "68"}
وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلم مأمور.




(قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً"70")

وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة.



>>>>>>>>>
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:38 pm

(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71")

(فانطلقا) سارا معاً، حتى ركبا سفينة، وكانت معدة لنقل الركاب، فما كان من الخضر إلا أن بادر إلى خرقها وإتلافها، عندها لم يطق موسى هذا الأمر، وكبرت هذه المسألة ف نفسه فلم يصبر عليها فقال:

{أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمراً "71"}
أي: أمراً عجيباً أو فظيعاً. ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته.
كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يعلمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن الكلام قد يقال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك: أنا رهن أمرك ورقبتي لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً.
ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكتف بالاستفهام:

{أخرقتها لتغرق أهلها .. "71"}
بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.



(قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً"72")
وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ يقول: إن كلامي لك كان صادقاً، وقد حذرتك أنك لن تصبر على ما ترى من تصرفاتي، وهاأنت تعترض علي، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألا تسألني عن شيء حتى أخبرك أنا به.



(قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً "73") يعتذر موسى ـ عليه السلام ـ عما بدر منه لمعلمه، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته

{ولا ترهقني من أمري عسراً "73"}
أي: لا تحملني من أمر اتباعك عسراً ومشقة. فسامحه الخضر وعاود السير



(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكراً "74")

تلاحظ أن الاعتداء الأول من الخضر كان على مال أتلفه، وهنا صعد الأمر إلى قتل نفس زكية دون حق، فبأي جريرة يقتل هذا الغلام الذي لم يبلغ رشده؟ لذلك قال في الأولى:

{لقد جئت شيئاً إمراً "73"}
أي عجيباً أما هنا فقال:
{لقد جئت شيئاً نكراً "74"}
أي: منكراً؛ لأن الجريمة كبيرة.
والنفس الزكية: الطاهرة الصافية التي لم تلوثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية. وكذلك يأتي الرد من الخضر مخالفاً للرد الأول، ففي المرة الأولى قال:
{ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً "72"}
أي: قلت كلاماً عاماً

اما هنا فقال:




(قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً"75")
وأكدها وأرده بالكلام أي: قلت لك أنت. ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه



(قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً"76")

وهكذا قطع موسى ـ عليه السلام ـ الطريق على نفسه، وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها الفراق؛

<لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحمنا الله، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير">

فهذه هي الثالثة، وليس لموسى عذر بعد ذلك. ومعنى:

{وقد بلغت من لدني عذراً "76"}
أي: قد فعلت معي كل ما يمكن فعله، وليس لي عذر بعد ذلك




(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً "77")

استطعم: أي طلب الطعام، وطلب الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل مالاً لقلنا: إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنع الطعام عن سائله دليل بخل ولؤم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مرا بها وطلبا الطعام فمنعوهما.
والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يصور مدى بخل هؤلاء القوم ولؤمهم وسوء طباعهم، فلم يقل مثلاً: فأبوا أن يطعموهما، بل قال:

{فأبوا أن يضيفوهما .. "77"}
وفرق بين الإطعام والضيافة، أبوا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أبوا أن يضيفوهما، يعني كل ما يمكن أن يقدم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من لؤم هؤلاء الناس. وتلحظ أيضاً تكرار كلمة (أهل) فلما قال:

{أتيا أهل قريةٍ .. "77"}
فكان المقام للضمير فيقول: استطعموهم، لكنه قال:

{استطعما أهلها .. "77"}
لأنهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟
بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البخل ولؤم الطباع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:

{فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه .. "77"}
أي: لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وجدا جداراً يريد أن ينقض، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإن جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قرب. أي: جداراً قارب أن ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدع والشروخ مثلاً.
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضيقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويدققون في المسائل فلا مانع لديهم أن يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياة تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام.
ألم يقل الحق سبحانه:

{فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"}
(سورة الدخان)

فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدت مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله:

{فما بكت عليهم السماء والأرض .. "29"}
(سورة الدخان)

دليل على أنها تبكي على فقد الصالحين.
وقد سئل الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عن هذه المسألة فقال: "نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضوع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مصلاه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله".
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكون من حوله، فالكون ساجد لله مسبح لله طائع لله يحب الطائعين وينبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول: (نبا به المكان) أي: كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مسبح وهو غافل. وعلى هذا الفهم فقوله تعالى:

{يريد أن ينقض .. "77"}
قول على حقيقته. إذن: فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة،
<وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث">

وروي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم. وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا: لا ينبغي أن نقول: سبح الحصى في يد رسول الله؛ لأن الحصى يسبح أيضاً في يد أبي جهل، لكن نقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه.
ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك، ولغة للطير، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار، وأنها تفر من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة. إذن: فلهم وسائل إدراك، ولهم لغة يتفاهمون بها، ولهم منطق يعبرون به.
ثم يقول الحق سبحانه عن فعل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض

{فأقامه .. "77"}
أي: أصلحه ورممه

{قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"}
هذا قول موسى ـ عليه السلام ـ لما رأى لؤم القوم وخستهم، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يطعمونا، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟
وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلام ـ لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل



(قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً"78")
(قال) أي: العبد الصالح (هذا) أي: ما حدث منك من قولك:

{قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً "77"}
وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلام ـ على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفراق بينهما، وكأن العبد الصالح لم يأت بشيء من عنده، لقد قال موسى:

{إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني .. "76"}
قوله:

{هذا فراق بيني وبينك .. "78"}
تعد دستوراً من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان، فيظل كل منهما له طريقه: المرتاض له طريق، وغير المرتاض له طريقه، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر، بل يلزم أدبه في حدود ما علمه الله. ثم يقول تعالى على لسان الخضر:

{سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً "78"}
أي: لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات، حتى لا يكون في نفسك مني شيء، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضت عليها لتعلم أن الله لم يخدعك، بل أرسلك إلى من يعلمك شيئاً لم تكن تعلمه.
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تلو الآخر، كما لو عتب عليك صاحبك في أمر ما، وأنت حريص على مودته فتقول له: أمهلني حتى أوضح لك ما حدث، لقد فعلت كذا من أجل كذا، لتريح قلبه وتزيل ما التبس عليه من هذا الأمر.
وقالوا: إن هذا من أدب الصحبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أن نفترق على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وفاق ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف ينمي الفجوة ويدعو للقطيعة، إذن: فقبل أن نفترق: المسألة كيت وكيت، فتتضح الأمور وتصفو النفوس.



>>>>>>>>>>

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:38 pm


(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً"79")

قوله: (لمساكين) اللام هنا للملكية، يعني مملوكة لهم، وقد حسمت هذه الآية الخلاف بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشد حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين: هو من يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير: فهو من لا يملك شيئاً. ومعنى:

{يعملون في البحر .. "79"}
أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه. وقوله:

{فأردت أن أعيبها .. "79"}
المتكلم هنا هو الخضر ـ عليه السلام ـ فنسب إرادة عيب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عما لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال:

{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما .. "82"}
لذلك فإنه في نهاية القصة يرجع كل ما فعله إلى الله فيقول:

{وما فعلته عن أمري .. "82"}
ثم يقول تعالى:

{وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً .. "79"}
كلمة: كل ترسم سوراً كلياً لا يترك شيئاً، فالمراد يأخذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجة له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مقدرة: أي يأخذ كل سفينة صالحة غصباً من صاحبها.
والغصب: ما أخذ بغير الحق، عنوة وقهراً ومصادرة، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة: وهي أخذ المال من حرزه خفيه ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغصب: وهو أخذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف: وهو أخذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلة ما، يخطف الشيء ويفر به دون أن تتمكن من اللحاق به، فالخطف ـ إذن ـ يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره.
ومادام الأمر هنا غصباً فلابد لمالك الشيء أن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حقه، وقد يتوسل إليه أن يترك له ماله، فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلام وأخذ ورد.
إذن: خرق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مقوم، وهذا منهي عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو علم موسى ـ عليه السلام ـ هذه الحكمة لبادر هو إلى خرقها.
ومادام الأمر كذلك، فعلينا أن نحول السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخرقها، أو بخلع لوح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أخذها.
وكلمة (وراءهم) هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حد قوله تعالى:

{من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ .. "16"}
(سورة إبراهيم)

وهل جهنم وراءه أم أمامه؟ وتستعمل وراء بمعنى: بعد، كما في قوله تعالى:

{فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب "71"}
(سورة هود)

وتأتي وراء بمعنى: غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين:

{والذين هم لفروجهم حافظون "5" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "6" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون"7"}
(سورة المؤمنون)

وفي قوله تعالى:

{حرمت عليكم أمهاتكم .. "23"}
(سورة النساء)

إلى ..

{وأحل لكم ما وراء ذلكم .. "24"}
(سورة النساء)

وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى:
{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم .. "187"}

إذن: كلمة (وراء) جاءت في القرآن على أربعة معانٍ: أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يميز العربية عن غيرها من اللغات، والملكة العربية قادرة على أن تميز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العين ـ مثلاً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة. أو: عين الماء، أو: بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد.



(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفراً "80")

الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحلم وسن التكليف، ومادام لم يكلف فما يزال في سن الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال:

{أقتلت نفساً زكيةٍ .. "74"}
أي: طاهرة، ولاشك أن أخذ الغلام في هذه السن خير له ومصلحة قبل أن تلوثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب.
إذن: فطهارته هي التي دعتنا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟
يقول تعالى:

{فكان أبواه مؤمنين .. "80"}
وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .. "14"}
والفتنة بالأولاد تأتي من حرص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في احسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد علم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يرد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.
وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أسدى إلى كليهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام.
لذلك يعد من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أن يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعت وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أعد له من النعيم، لا ندري أن من أخذ من أولادنا قبل البلوغ لا يحدد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يسمون "دعاميص الجنة".
ثم يقول تعالى:
{فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً "80"}
خشينا: خفنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.



(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحماً"81")
ولا يفوت الخضر ـ عليه السلام ـ أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله، فيقول: أنا احب هذا العمل وأريده، إنما الذي يبدل في الحقيقة هو الله تعالى:

{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً .. "81"}
فهذا الخير من الله، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه. وقوله:

{خيراً منه زكاة .. "81"}
أي: طهراً.

{وأقرب رحماً .. "81"}
لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قرة عين لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاء لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أن يتمتعا به في الدنيا الفانية، ويشقيا به في الآخرة الباقية.




(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً"82")

(لغلامين) أي: لم يبلغا سن الرشد، وفوق ذلك هما يتيمان. وكان تحت هذا الجدار المائل كنز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما، ولك أن تتصور ما يحدث لو تهدم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذي عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأوى، إن أقل ما يوصفون به أنهم لئام لا يؤتمنون على شيء. ولقد تعودنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللئام.
إذن: فلاشك أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يعد بمثابة صفعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكر وسوء استقبال، وترد لهم الصاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز.
فعلة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أن يحفظ لحين أن يكبر هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أن يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورده إلى ما كان عليه رد من علمه الله من لدنه، فيقال: إنه بناه بناءً موقوتاً يتناسب وعمر الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سن الرشد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا من أتي علماً خاصاً من الله تعالى.
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سن واحدة توأمين لقوله تعالى:

{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .. "82"}
أي: سوياً، ومعنى الأشد: أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله. وتلاحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا:

{يبلغا أشدهما .. "82"}
ولم يقل رشدهما، لأن هناك فرقاً بين الرشد والأشد فالرشد: حسن التصرف في الأمور، أما الأشد: فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كنزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا

{أشدهما .. "82"}
ثم يقول تعالى:

{ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك .. "82"}
أي: يستخرجاه بما لديهما من القوة والفتوة. والرحمة: صفة تعطي للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى:

{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين .. "82"}
فقوله: شفاء: أي: يشفي داءً موجوداً ويبرئه. ورحمة: أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى. وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحفظ حقهما، ثم لم يفت العبد الصالح أن يرجع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول:

{وما فعلته عن أمري .. "82"}
أي: أن ما حدث كان بأمر الله، وما علمتك إياه كان من عند الله، فليس لي ميزة عليك، وهذا درس في أدب التواضع ومعرفة الفضل لأهله. ثم يقول:

{ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً "82"}
(سورة الكهف)

تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:39 pm

فوائد من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

• فمنها : أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجهده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله : ( وعلمناه من لدنا علمًا ) .
• ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى - عليه السلام - : ( هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا ) ، فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه . بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعون أنه يتعاونون عم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أن يعلم معلمه ، وهو جاهل جدًا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
• ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى - بلاشك - أفضل من الخضر .
• ومنهل : تعلم العالم الفاضل ، للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة . فإن موسى - عليه السلام - من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا في العلم الخاص ، كان عند الخضر ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه . فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصرًا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوهما من العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثًا ولا فقيهًا .
• ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : ( تعلمن مما علمت ) أي : مما علمك الله تعالى .
• ومنها : أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع . وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارًا أو ليس فيه فائدة لقوله : ( أن تعلمن مما علمت رشدًا ).
• ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه ليس بأهل لتلقي العلم . فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه : إنه لا يصبر معه .
• ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علمًا وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه . وإلا فالذي لا يدريه أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا ) . فجعل الموجب لعدم صبره ، عدم إحاطته خبرًا بالأمر .
• ومنها : الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .
• ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول : ( إن شاء الله ) .
• ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : ( ستجدني إن شاء الله صابرًا ) فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .
• ومنها : جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها .
• ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : ( لا تؤاخذني بما نسيت ) .
• ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم ولا ينبغي به أن يكلفهم ما لا يطيقون أو يشق عليهم ويرهقهم فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
• ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها . فإن موسى - عليه السلام - أنكر على الخضر خرقه السفينة وقتل الغلام وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر . وموسى - عليه السلام - لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر . فاستعجل - عليه السلام - وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الإنكار .
• ومنها : القاعدة الكبير الجليلة وهو أنه ( يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ) ويراعي أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما . فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرًا منه وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر . وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر . فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا . ومنها القاعدة الكبيرة أيضًا وهي أن ( عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ) .
كما خرق الخضر السفينة لتعيب فتسلم مت غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق أو غرق أو نحوهما في دار إنسان أو ماله وكان إتلاف بعض المال أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظًا لمال الغير . وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ولو من غير إذن .
• ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : ( يعملون في البحر ) ولم ينكر عليهم عملهم .
• ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ؛ لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة .
• ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام : ( لقد جئت شيئًا نكرًا ) .
• ومنها : أن القتل قصاصًا غير منكر لقوله : ( بغير نفس ) .
• ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه وفي ذريته .
• ومنها : أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما وإقامة جدارهما بأن أباهما صالح .
• ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ . فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : ( فأردت أن أعيبها ) . وأما الخير فأضافه إلى الله تعالى لقوله : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ) . كما قال إبراهيم - عليه السلام - : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) . وقال الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا ) مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
• ومنها : أن ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ويترك صحبته حتى يتبعه ويعذر منه كما فعل الخضر مع موسى .
• ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:40 pm

نكمل بأذن الله



قصة ذو القرنين



(ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً "83")

ذو القرنين: هذا لقبه؛ لأنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين، أو يلبس تاجاً له اتجاهان؛ أو لأنه بلغ قرني الشمس في المشرق وفي المغرب.
وقد بحث العلماء في: من هو ذو القرنين؟ فمنهم من قال: هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو: أبو الكلام آزاد ـ وزير المعارف الهندي ـ إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر، بل هو قورش الصالح، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين، كما أن الإسكندر كان وثنياً، وكان تلميذاً لأرسطو، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته.
وعلى العموم، ليس من صالح القصة حصرها في شخص بعينه؛ لأن تشخيص حادثة القصة يضعف من تأثيرها، ويصبغها بصبغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى من يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر.
إذن: لو جاء العلم في ذاته سنقول: هذه الحادثة أو هذا العمل خاص بهذا الشخص، والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أن يضرب لنا مثلاً يعم أي شخص، ماذا سيكون مسلكه وتصرفه إن مكن الله له ومنحه الله قوة وسلطة؟
ولو حدد القرآن هذه الشخصية في الإسكندر أو قورش أو غيرهما لقلنا: إنه حدث فردي لا يتعدى هذا الشخص، وتنصرف النفس عن الأسوة به، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها. ولو كان في تعيينه فائدة لعينه الله لنا.
وسبق أن أوضحنا أن الحق ـ سبحانه ـ عندما ضرب مثلاً للذين كفروا، قال:

{امرأة نوحٍ وامرأة لوط .. "10"}
(سورة التحريم)

ولم يعينهما على التحديد؛ لأن الهدف من ضرب المثل هنا بيان الرسول المرسل من الله لهداية الناس لم يتمكن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه؛ لأن الإيمان مسألة شخصية، لا سيطرة فيها لأحد على أحد. وكذلك لما ضرب الله مثلاً للذين آمنوا قال:

{امرأة فرعون .. "11"}
(سورة التحريم)

ففرعون الذي أضل الناس وادعى الألوهية زوجته مؤمنة، وكأن الحق سبحانه يلمح للناس جميعاً أن رأيك في الدين وفي العقائد رأي ذاتي، لا يتأثر بأحد أياً كان، لا في الهداية بنبي، ولا في الغواية بأضل الضالين الذي ادعى الألوهية.
وهكذا يحفظ الإسلام للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها.
إذن: الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مشخصة لتكون نموذجاً وأسوة يحتذي بها كل أحد، وإلا لو شخصت لارتبطت بهذا الشخص دون غيره، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها، بل واسم أبيها؛ ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم، لذلك عينها وشخصها؛ لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف.
أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص، فهذا يعني أنها صالحة لأن تتكرر في أي زمان أو في أي مكان، كما رأينا في قصة أهل الكهف، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً، وأبهمهم عدداً، ليكونوا أسوة وقدوة للفتيان المؤمنين في أي زمان، وفي أي مكان، وبأي عدد.
وقوله:

{ويسألونك عن ذي القرنين .. "83"}
نلاحظ أن مادة السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن أخذت حيزاً كبيراً فيه، فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة، إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى:

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب .. "186"}
(سورة البقرة)

وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع، كما في:

{يسألونك عن الأهلة .. "189"}
(سورة البقرة)

وقوله:
{يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين .. "215"}
(سورة البقرة)

{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه .. "217"}
(سورة البقرة)

{يسألونك عن الخمر والميسر .. "219"}
(سورة البقرة)

{ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو .. "219"}
(سورة البقرة)

{ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير .. "220"}
(سورة البقرة)

{ويسألونك عن المحيض .. "222"}
(سورة البقرة)

{يسألونك ماذا أحل لهم .. "4"}
(سورة المائدة)

{يسألونك عن الساعة .. "187"}
(سورة الأعراف)

{يسألونك عن الأنفال .. "1"}
(سورة الأنفال)

{ويسألونك عن الروح .. "85"}
(سورة الإسراء)

{ويسألونك عن ذي القرنين .. "83" }
(سورة الكهف)

{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً .. "105"}
(سورة طه)

خمسة عشر سؤالاً بالمضارع، إلا أن الجواب عليها مختلف، وكلها صادرة عن الله الحكيم، فلابد أن يكون اختلاف الجواب في كل سؤال له ملحظ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم، ومنها ما سأله المؤمنون، السؤال من المؤمنين لرسول الله ـ وقد نهاهم أن يسألوه حتى يهدأوا ـ إلحاح منهم في معرفة تصرفاتهم وإن كانت في الجاهلية، إلا أنهم يريدون أن يعرفوا رأي الإسلام فيها، فكأنهم نسوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تشرع كل أمورهم على وفق الإسلام.
وبتأمل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدة يأتي الجواب مباشرة دون (قل) وهي في قوله تعالى:

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب .. "186"}
(سورة البقرة)

وواحدة وردت مقرونة بالفاء (فقل) وهي قوله تعالى:

{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً .. "105"}
(سورة طه)

وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل (قل)، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها؟

قالوا: حين يقول الحق سبحانه في الجواب (قل) فهذه إجابة على سؤال سأله رسول الله بالفعل، أي: حدث فعلاً منهم، أما الفاء فقد أتت في الجواب على سؤال لم يسأله، ولكنه سيسأله مستقبلاً.
فقوله تعالى:

{ويسألونك عن الجبال .. "105"}
(سورة طه)

سؤال لم يحدث بعد، فالمعنى: إذا سألوك فقل، وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع. فإذا قلت: فما الحكمة في أن يأتي الجواب في قوله تعالى:

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب .. "186"}
(سورة البقرة)

خالياً من: قل أو فقل: مع أن (إذا) تقتضي الفاء في جوابها؟
نقول: لأن السؤال هنا عن الله تعالى، ويريد سبحانه وتعالى أن يجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من أحد؛ لذلك تأتي الإجابة مباشرة دون واسطة:

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع .. "186"}
(سورة البقرة)

قوله تعالى:

{ويسألونك عن ذي القرنين .. "83"}
(سورة الكهف)

أي: عن تاريخه وعن خبره والمهمة التي قام بها:

{قل سأتلو عليكم منه ذكراً "83"}
(سورة الكهف)


نعود مرة اخرى للأية :

(ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً "83")
وأي شرف بعد هذا الشرف، إن الحق تبارك وتعالى يتولى التأريخ لهذا الرجل، ويؤرخ له في قرآنه الكريم الذي يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة والذي يتحدى به، ليظل ذكره باقياً بقاء القرآن، خالداً بخلوده، يظل أثره فيما عمل أسوة وقدوة لمن يعمل مثله. إن دل على شيء فإنما يدل على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أن يذكر عند الخلق.
فأي ذكر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه؟
و(منه) أي: بعضاً من ذكره وتاريخه، لا تاريخه كله.
وكلمة (ذكر) وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة، تلتقي جميعها في الشرف والرفعة، وفي التذكر والاعتبار. وإن كانت إذا أطلقت تنصرف انصرافاً أولياً إلى القرآن، كما في قوله تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "9"}
(سورة الحجر)

وبعد ذلك تستعمل في أي كتاب أنزله الله تعالى من الكتب السابقة، كما جاء في قوله تعالى:

{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "43"}
(سورة النحل)

ويطلق الذكر على ما يتبع هذا من الصيت والشرف والرفعة وتخليد الاسم، كما في قوله تعالى:

{لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم .. "10"}
(سورة الأنبياء)

وقوله تعالى:

{وإنه لذكر لك ولقومك .. "44"}
(سورة الزخرف)

أي: صيت حسن وشرف ورفعة كون القرآن يذكر هذا الاسم؛ لأن الاسم إذا ذكر في القرآن ذاع صيته ودوي الآفاق.

إذن: فذكر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير، وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله، ومجازى بأن يخلد ذكره ويبقى صيته بين الناس في الدنيا.



(إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً "84") التمكين: أي أننا أعطيناه إمكانات يستطيع بها أن يصرف كل أموره التي يريدها؛ لأنه مأمون على تصريف الأمور على حسب منهج الله، كما قال تعالى في آية أخرى عن يوسف عليه السلام:

{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء .. "56"}
(سورة يوسف)

فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيصرف به الأمور، لكن لماذا مكناه؟ مكناه لأنه مأمون على تصريف الأمور وفق منهج الله، ومأمون على ما أعطاه الله من إمكانات. وقوله:

{وآتيناه من كل شيء سبباً "84"}
(سورة الكهف)

أي: أعطيناه أسباباً يصل بها إلى ما يريد، فما من شيء يريده إلا ويجعل الله له وسيلة موصلة إليه. فماذا صنع هو؟




(فأتبع سبباً "85")

أتبع السبب، أي: لا يذهب لغاية إلا بالوسيلة التي جعلها الله له، فلقدمكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سبباً، ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أعطى، فلم يتقاعس، ولم يكسل، بل أخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب.



(حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً"86")

وبلوغه مغرب الشمس دليل على أنه لم يكن بهذا المكان، بل كان قادماً إليه من المشرق. ومعنى (مغرب الشمس) هل الشمس تغرب؟
هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد، فلو لاحظت الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغرب
إذن: غروبها بمعنى غيابها من مرأى عينك أنت؛ لأن الشمس لا تغيب أبداً، فهي دائماً شارقة غاربة، بمعنى أنها حين تغرب على قوم تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب.
وهذه أعطتنا دوام ذكر الله ودورانه على الألسنة في كل الأوقات، فحين نصلي نحن الظهر مثلاً يصلي غيرنا العصر، ويصلي غيرهم المغرب، وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل وقت، فلا ينتهي الظهر لله، ولا ينتهي العصر لله، ولا ينتهي المغرب لله، بل لا ينتهي الإعلام بواحدة منها طوال الوقت، وعلى مر الزمن.
ثم يقول تعالى:

{وجدها تغرب في عينٍ حمئةٍ .. "86"}
(سورة الكهف)

أي: في عين فيها ماء. وقلنا: إن الحمأ المسنون هو الطين الذي اسود لكثرة وجوده في الماء. وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم الهند أبو الكلام آزاد، ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى، قال: عند موضع يسمى (أزمير).
وقوله:

{ووجدها عندها قوماً .. "86"}
(سورة الكهف)

أي: عند هذه العين.

{قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً "86"}
(سورة الكهف)

إذن: فهذا تفويض له من الله، ولا يفوض إلا المأمون على التصرف

{إما أن تعذب .. "86"}
(سورة الكهف)

ولابد أنهم كانوا كفرة أو وثنيين لا يؤمنون بإله، فإما أن تأخذهم بكفرهم، وإما أن تتخذ فيهم حسناً.
لكن ما وجه الحسن الذي يريد الله أن يتخذه؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم الدعوة، فبين لهم وجه الصواب ودلهم على دين الله، فمن آمن منهم فأحسن إليه، ومن أصر على كفره فعذبه، إذن: عليك أن تأخذهم أولاً بالعظة الحسنة والبيان الواضح، ثم تحكم بعد ذلك على تصرفاتهم.



(قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكراً "87")
قوله:

{فسوف نعذبه .. "87"}
يعطينا إشارة إلى المهلة التي سيعطيها لهؤلاء، مهلة تمكنه أن يعظهم ويذكرهم ويفهمهم مطلوبات دين الله. وسبق أن قلنا: إن الظلم أنواع، أفظعها وأعلاها الشرك بالله، كما قال تعالى:

{إن الشرك لظلم عظيم "13"}
(سورة لقمان)

ثم يقول تعالى:

{ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً "87"}
فلن نعذبه على قدر ما فعل، بل نعذبه عقوبة دنيوية فقط؛ لأن العقوبات الدنيوية شرعت لحفظ توازن المجتمع، وردع من لا يرتدع بالموعظة، وإلا فما فائدة الموعظة في غير المؤمن؟ لذلك نرى الأمم التي لا تؤمن بإله، ولا بالقيامة والآخرة تشرع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم أوضاعها.
وبعد عذاب الدنيا عقوبتها هنا عذاب أشد في الآخرة

{عذاباً نكراً "87"}
والشيء النكر: هو الذي لا نعرفه، ولا عهد لنا به أو ألفة؛ لأننا حينما نعذب في الدنيا نعذب بفطرتنا وطاقتنا، أما عذاب الله في الآخرة فهو شيء لا نعرفه، وفوق مداركنا وإمكاناتنا.



(وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً "88")
قوله:

{فله جزاء الحسنى .. "88"}
(سورة الكهف)

أي: نعطيه الجزاء الحسن

{وسنقول له من أمرنا يسراً "88"}
(سورة الكهف)

نقول له الكلام الطيب الذي يشجعه ويحفزه، وإن كلفناه كلفناه بالأمر اليسير غير الشاق. وهذه الآية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته، فمجتمع بلا جزاءات تثيب المجد وتعاقب المقصر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيب، فإن أمن الناس العقاب تكاسلوا، وربما ما تعانيه مصر الآن من سوء الإدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق القانون لا نستطيع معاقبتهم فيتسيب الآخرون.
وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها من لا يعمل، ويظفر بها من يتقرب ويتودد ويتملق وينافق، ولهؤلاء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها، أما الذي يجد ويعمل ويخلص فهو منهك القوى مشغول بإجادة عمله وإتقانه، لا وقت لديه لهذه الأساليب الملتوية، فهو يتقرب بعمله وإتقانه، وهذا الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة. ولك أن تتصور مدى الفساد والتسيب الذي تسببه هذه الصورة المقلوبة المعوجة. إذن: فميزان المجتمع وأساس نهضته:

{أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكراً "87" وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً "88"}
(سورة الكهف)

فما أجمل أن نرصد المكافآت التشجيعية والجوائز، ونقيم حفلات التكريم للمتميزين والمثاليين، شريطة أن يقوم ميزان الاختيار على الحق والعدل.
والحسنى: أفعل التفضيل المؤنث لحسن، فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب أولى، ومن هذا قوله تعالى:

{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .. "26"}
(سورة يونس)




(ثم أتبع سبباً"89")
أي: ذهب إلى مكان آخر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:40 pm


(حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً"90")

قوله تعالى:

{مطلع الشمس .. "90"}
(سورة الكهف)

كما قلنا في مغربها، فهي دائماً طالعة؛ لأنها لا تطلع من مكان واحد، بل كل واحد له مطلع، وكل واحد له مغرب حسب اتساع الأفق.
ثم يقول تعالى:

{وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً "90"}
(سورة الكهف)

الستر: هو الحاجز بين شيئين، وهو إما ليقيني الحر أو ليقيني البرد، فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلاً، أو ليس عندهم ما يسترهم من الشمس مثل البيوت يسكنونها، أو الأشجار يستظلون بها.
وهؤلاء قوم نسميهم "ضاحون" أي: ليس لهم ما يأويهم من حر الصيف أو برد الشتاء، وهم أناس متأخرون بدائيون غير متحضرين. ومثل هؤلاء يعطيهم الله تعالى في جلودهم ما يعوضهم عن هذه الأشياء التي يفتقدونها، فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف.
وهذا نلاحظه في البيئات العادية، حيث وجه الإنسان وهو مكشوف للحر وللبرد، ولتقلبات الجو، لذلك جعله الله على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات، على خلاف باقي الجسم المستور بالملابس، فإذا انكشف منه جزء كان شديد الحساسية للحر أو للبرد، وكذلك من الحيوانات ما منحها اله خاصية في جلودها تستطيع أن تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته.
وهؤلاء البدائيون يعيشون هكذا، ويتكيفون مع بيئتهم، ولا تشغلهم مسألة الملابس هذه، ولا يفكرون فيها، حتى يذهب إليهم المتحضرون ويرون الملابس، وكيف أنها زينة وستر للعورة فيستخدمونها.
ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم، وإن قسنا الأمر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول: ربما حضرهم ووفر لهم أسباب الرقي.
وبعض المفسرين يرون أن ذا القرنين ذهب إلى موضع يومه ثلاثة أشهر، أو نهاره ستة أشهر، فصادف وصوله وجود الشمس فلم ير لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به، ولم ير لها ستراً يسترها عنهم، ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال.



(كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً "91")

كذلك: يعني ذهب كذلك، كما ذهب للمغرب ذهب للمشرق



(ثم أتبع سبباً "92") ذهب إلى مكان آخر




(حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولاً "93")

السد: هو الحاجز بين شيئين، والحاجز قد يكون أمراً معنوياً، وقد يكون طبيعياً محسوساً كالجبال، فالمراد بالسدين هنا جبلان بينهما فجوة، ومادام قد قال: (بين السدين) فالبين هنا يقتضي وجود فجوة بين السدين يأتي منها العدو.

{وجد من دونهما .. "93"}
(سورة الكهف)

أي: تحتهما.

{قوماً لا يكادون يفقهون قولاً "93"}
(سورة الكهف)

أي: لا يعرفون الكلام، ولا يفقهون القول؛ لأن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم، وهؤلاء لا يقولون كلاماً، ولا يفهمون ما يقال لهم، ومعنى:

{لا يكادون .. "93"}
(سورة الكهف)

لا يقربون من أن يفهموا، فلا ينفي عنهم الفهم، بل مجرد القرب من الفهم، وكأنه لا أمل في أن يفهمهم. لكن، يكف نفى عنهم الكلام، ثم قال بعدها مباشرة:

{قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض. فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا "94"}
(سورة الكهف)

فأثبت لهم القول؟
يبدو أنه خاطبهم بلغة الإشارة، واحتال على أن يجعل من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون، ولاشك أن هذه العملية احتاجت منه جهداً وصبراً حتى يفهمهم ويفهم منهم، وإلا فقد كان في وسعه أن ينصرف عنهم بحجة أنهم لا يتكلمون ولا يتفاهمون. فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير، والذي لا يألو جهداً في نفع القوم وهدايتهم.
والإشارة أصبحت الآن لغة مشهورة ومعروفة، ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.


( إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض. فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا )
..فاشتكوا عليه من الضرر الذي يلحق بهم من يأجوج ومأجوج وطلبوا منه ان يقيم بينهم

سدا يمنعهم عنهم وعرضوا عليه مالا كثيرا يجمعونه له ...فاستجاب لطلبهم رافضا اموالهم ومتعففا عنها



(قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً "95")

والقول هنا أيضاً قول دلالة وإشارة تفهمهم أنه في غنى عن الأجر، فعنده الكثير من الخير الذي أعطاه الله، إنما هو في حاجة إلى قوة بشرية عاملة تعينه، وتقوم معه بتنفيذ هذا العمل.
ونفهم من الآية أن المعونة من الممكن في الأرض المالك للشيء يجب أن تكون حسبة لله، وأن تعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تعينه كل وقت، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلمه أن يعمل بنفسه بدل أن تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً؛ لذلك يقولون: لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة، لها نفس، ولها عمر.
ولما كان ذو القرنين ممكناً في الأرض، وفي يده الكثير من الخيرات والأموال، فهوليس في حاجة إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة، فقال:

{فأعينوني بقوةٍ .. "95"}
(سورة الكهف)

أي: قوة وطاقة بشرية قوية مخلصة

{أجعل بينكم وبينهم ردماً "95"}
(سورة الكهف)

ولم يقل: سداً؛ لأن السد الأصم يعيبه أنه إذا حصلت رجة مثلاً في ناحية منه ترج الناحية الأخرى؛ لذلك أقام لهم ردماً أي: يبني حائطاً من الأمام وآخر من الخلف، ثم يجعل بينهما ردماً من التراب ليكون السد مرناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلاً، فيكون به التراب مثل "السوست" التي تمتص الصدمات.
والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها، حتى تردم حفرة مثلاً وتسويها بالأرض، ومن ذلك ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه، وهو لا يريد أن يسمع، فيقول له: اردم على هذا الموضوع



(آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطراً "96")

لم يكن ذو القرنين رجلاً رحالة، يسير هكذا بمفرده، بل مكنه الله من أسباب كل شيء، ومعنى ذلك أنه لم يكن وحده، بل معه جيش وقوة وعدد وآلات، معه رجال وعمال، معه القوت ولوازم الرحلة، وكان بمقدوره أن يأمر رجاله بعمل هذا السد، لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل ليدربهم ويعلمهم ماداموا قادرين، ولديهم الطاقة البشرية اللازمة لهذا العمل.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول:

{لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها .. "7"}
(سورة الطلاق)

فمادام ربك قد أعطاك القوة فاعمل، ولا تعتمد على الآخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلاثة: أعينوني بقوة، آتوني زبر الحديد، آتوني أفرغ عليه قطراً.
زبر الحديد: أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زبرة، والقطر: هو النحاس المذاب، لكن، كيف بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد، وسد ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خرقه، وليكون أملس ناعماً فلا يتسلقونه، ويعلون عليه. فقوله:

{حتى إذا ساوى بين الصدفين .. "96"}
(سورة الكهف)

الصدف: الجانب، ومنه قوله تعالى:

{فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها .. "157"}
(سورة الأنعام)

أي: مال عنها جانباً. فمعنى: ساوى بين الصدفين. أي: ساوى الحائطين الأمامي والخلفي بالجبلين:

{قال انفخوا .. "96"}
(سورة الكهف)

أي: في الحديد الذي أشعل فيه، حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذاب:

{قال آتوني أفرغ عليه قطراً "96"}
(سورة الكهف)

وهكذا أنسبك الحديد الملتهب مع النحاس المذاب، فأصبح لدينا حائط صلب عالٍ أملس.



(فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً"97")
(أن يظهروه) أي: ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد أو يتسلقوه وينفذوا من أعلاه؛ لأنه ناعم أملس، ليس به ما يمكن الإمساك به:

{وما استطاعوا له نقباً "97"}
(سورة الكهف)

لأنه صلب.




(قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً"98")
لم يفت ذا القرنين ـ وهو الرجل الصالح ـ أن يسند النعمة إلى المنعم الأول، وأن يعترف بأنه مجرد واسطة وأداة لتنفيذ أمر الله:

{قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دعاء وكان وعد ربي حقاً "98"}
(سورة الكهف)

لأنني أخذت المقومات التي منحني الله إياها، واستعملتها في خدمة عباده. الفكر مخلوق لله، والطاقة والقوة مخلوقة لله، المواد والعناصر في الطبيعة مخلوقة لله، إذن: فما لي أن أقول: أنا عملت كذا وكذا؟
ثم يقول تعالى:

{فإذا جاء وعد ربي .. "98"}
(سورة الكهف)

أي: الآخرة.

{جعله دكاء .. "98"}
(سورة الكهف)

فإياكم أن تظنوا أن صلابة هذا السد ومتانته باقية خالدة، إنما هذا عمل للدنيا فحسب، فإذا أتى وعد اله بالآخرة والقيامة جعله الله دكاً وسواه بالأرض، ذلك لكي لا يغترون به ولا يتمردون على غيرهم بعد أن كانوا مستذلين مستضعفين ليأجوج ومأجوج. وكأنه يعطيهم رصيداً ومناعة تقيهم الطغيان بعد الاستغناء.

{وكان وعد ربي حقاً "98"}
(سورة الكهف)

واقعاً لاشك فيه. والتحقيق الأخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يسمى الآن (بلخ) والجبلان من جبال القوقاز، وهما موجودان فعلاً، وبينهما فجوة مبني فيها، ويقولون: إن صاحب هذا البناء هو قورش، وهذا المكان الآن بين بحر قزوين والبحر الأسود.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:41 pm

يأجوج ومأجوج





ياجوج وماجوج اسمان لمنطقتين وشعبيهما ذكرا بالقرآن الكريم.وقد ورد اسم ماجوج بالتوراة

وقد يدل الاسمان (يأجوج ومأجوج) على بوادي وسهول قارة آسيه برمتها

وقد تبدو كلمة مغول قريبة لفظياً من الصيغة القرآنية ماجوج ،التي قد تكون متعلّقة بالماء (موج ) وبالقاموس [ مُجاجُ المُزْنِ: المَطَرُ] ،لعله نسبة لسكنهم الشمال والشرق عند الثلوج والجليد بسيبيريه ومنشوريه وشمال غرب الصين،أو نحو المحيطين الهادي والقطبي

فماجوج قد تكون بادية الصين الشمالية وشمالها الغربي ووسط وشرق سيبريه
وياجوج قد تكون بادية الصين الغربية وأواسط آسيه ووسط وغرب سيبريه والسهول الشمالية خاصة لبحر قزوين والبحر الأسود حتى جنوب وشرق روسيه


وقد استعان بذي القرنين شعب يقطن منطقة ما بين السدين [(لعل السدين هما سلسلة جبال الهملايا ، وأحد جبال هندوكوش أو جبال تيان شان أو كون لون أو آلتاي) ، ولعل تلك المنطقة (بين السدّين) تقع قرب أو عند منابع نهري جيحون وسيحون ونهر السند ونحو حوض تاريم وعقدة البامير التي منها تتشعب تلك السلاسل الجبلية لبناء ردم حديدي مفروغ عليه القطر (لعله النحاس) ساوى به مابين الصدفين وسدّ على تلك الشعوب الأعرابية الآسيوية التي تأتي من مناطق ما وراء السدين (ياجوج وماجوج) منفذها ومعبرها.وقد تمكّن ذو القرنين من ***** ذلك الردم الحديدي الذي كان رحمة من الله لذلك الشعب القاطن في تلك النواحي (وهناك بتلك النواحي إقليم مزار شريف بأفغانستان وهو غني جداً بالحديد والنحاس).

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا {98} وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا {99} الكهف

وقد عانت الصين من هجمات أعرابها من نحو الشمال خاصة ،فشرعوا منذ بضع مئات من السنين قبل الميلاد (حوالي القرن 7 ق.م) ببناء حوائط وأسوار ضخمة لصد غزوات تلك الشعوب الهمجية عنهم ، ولعل ردم ذي القرنين قد كثّف غزو الأعراب على الصين، فشيّد أهل الصين السور الأعظم منذ 200 ق.م (بني أكثره من التراب وبلغ طوله 1900 كم) ،مما وجّه غزو الأعراب نحو أوروبه،واستمر البناء والزيادة بعد ذلك عبر القرون،وبعد طرد المغول من الصين في عام 1370م أعيد البناء أشدّ من سابقه (الذي كان قد انهار معظمه) باستعمال الحجارة (وهو أكثر الموجود الآن،ويمتد حوالي 2400 كم وقيل 6000 كم) ،ويُعدّ البناء البشري الوحيد الذي يمكن رؤيته من الفضاء.

والإمبراطوريات القديمة كالروم وفارس والصين وغيرها لم تفتح تلك المناطق تقريباً

فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا {97}‏ الكهف

من هذه الآية الكريمة يتبين أن يأجوج ومـأجوج قد حاولوا الغزو من ناحية الردم بعد بنائه ، ولكن الردم حال دون عبورهم من بين تلك الجبال،لذلك شحّت تسرباتهم من تلك النواحي (ما وراء النهر) ، رغم كثرة حروبهم وتناحرهم فيما بينهم في أراضي أواسط آسيه وشمالها،سواء بين الأعراب أنفسهم أو نحو الصين ونحو أوروبه، ولم تتضح إلاّ قبيل الإسلام أو بُعيده،لعله بعد أن تداعى الردم. فلمّا لم تستطع تلك الشعوب الهمجية اختراق الردم الحديدي،وقذف بعضها من نحو تلك الجهات، اشتدّ اختلاط الشعبين بينهما اشد الاختلاط حرباً وسلماً ، واستطاعت بعض القبائل الأعرابية الهيمنة على الأخرى بل وتكوين إمبراطوريات بدوية شاسعة ،وكثرت الغزوات على الصين وأوروبه، حتى تمكن الخان الأعظم جنكيزخان من قهر أعراب آسيه وتوحيدهم جميعاً،بعد نحو ما يقارب الألفي عام من بناء ردم ذي القرنين

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ {96} وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ {97} الأنبياء

فالآية الكريمة قد تتضمن أو ترجّح معنى أن ياجوج وماجوج في آخر الأرض وأقصاها (العالم القديم خاصة)،وأن بلوغها يُعدّ غاية ونهاية الفتوحات العسكرية،التي لا يكون بعدها بلاد نائية بكر غير مفتوحة،والله أعلم. وقد حذّر خاتم الرسل النبي العربي عليه أفضل الصلاة والسلام، من قرب انبعاثهم: [(لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)،صحيح البخاري ومسلم].



وجاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وفيه ( إذا أوحى الله على عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أولئك على بحيرة طبرية ، فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب إلى الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف( دود يكون في أنوف الإبل والغنم ) في رقابهم فيصبحون فرسى ( أي قتلى ) كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ) رواه مسلم وزاد في رواية – بعد قوله ( لقد كان بهذه مرة ماء ) – ( ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر ، وهو جبل بيت المقدس فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما )ه

وجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه في ذكر أشراط الساعة فذكر منها ( يأجوج ومأجوج ) رواه مسلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:42 pm


(وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً "99")

فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض، كموج الماء لا تستطيع أن تفرق بعضهم من بعض، كما أنك لا تستطيع فصل ذرات الماء في الأمواج، يختلط فيهم الحابل بالنابل، والقوي بالضعيف، والخائف بالمخيف، فهم الآن في موقف القيامة، وقد انتهت العداوات الدنيوية، وشغل كل إنسان بنفسه.
وقوله تعالى:

{ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً "99"}
(سورة الكهف)

وهذه هي النفخة الثانية؛ لأن الأولى نفخة الصعق، كما قال تعالى:

{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون "68"}
(سورة الزمر)

فالنفخة الأولى نفخة الصعق ، والثانية نفخة البعث والقيامة ، والصعق قد يكون مميتاً، وقد يكون مغمياً لفترة ثم يفيق صاحبه، فالصعق المميت كما في قوله تعالى:

{وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين "43" فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون "44"}
(سورة الذاريات)

أما الصعقة التي تسبب الإغماء فهي مثل التي حدثت لموسى ـ عليه السلام ـ حينما قال:

{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين "143"}
(سورة الأعراف)

فالجبل الأشم الراسي الصلب اندك لما تجلى له الله، وخر موسى مصعوقاً مغمى عليه، وإذا كان موسى قد صعق من رؤية المتجلي عليه، فكيف برؤية المتجلي سبحانه؟
وكأن الحق سبحانه أعطى مثلاً لموسى ـ عليه السلام ـ فقال له: ليست ضنيناً عليك بالرؤية، ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أولاً ليكون لك مثالاً، إذن: لا يمنع القرآن أن يتجلى الله على الخلق، لكن هل نتحمل نحن تجلي الله؟
فمن رحمة الله بنا ألا يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا. أما في الآخرة، فإن الخالق سبحانه سيعدنا إعداداً آخر، وسيخلقنا خلقة تناسب تجليه سبحانه على المؤمنين في الآخرة؛ لأنه سبحانه القائل:

{وجوه يومئذٍ ناضرة "22" إلى ربها ناظرة "23"}
(سورة القيامة)

وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كل أمور الآخرة، ففيها مثلاً تقتاتون ولا تتغوطون؛ لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا.
لذلك جاء السؤال من موسى ـ عليه السلام ـ سؤالاً علمياً دقيقاً:

{رب أرني أنظر .. "143"}
(سورة الأعراف)

أي: أرني كيفية النظر إليك؛ لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك، إنما إن أريتني أنت أرى. وفي ضوء هذه الحادثة لموسى ـ عليه السلام ـ

<نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقة الأولى">

قالوا: لأنه صعق مرة في الدنيا، ولا يجمع الله تعالى على عبده صعقتين.



(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً"100")
أي: تعرض عليهم ليروها ويشاهدوها، وهذا العرض أيضاً للمؤمنين، كما جاء في قوله تعالى:

{وإن منكم إلا واردها .. "71"}
(سورة مريم)

والبعض يظن أن (واردها) يعني: داخلها، لا بل واردها بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه دون أن تشرب منه؛ ذلك لأن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروب على ظهر جهنم ليراها المؤمن والكافر.
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أن يدخل الجنة تريه مدى نعمة الله عليه ورحمته به، حيث نجاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنه أخذ بيده حتى مر من هذا المكان سالماً. لذلك يذكرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول:

{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .. "185"}
(سورة آل عمران)

أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولاً، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع؛ لأنه يعلم أنه داخلها، ولن يفلت منها. وقد وردت هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى:

{ألهاكم التكاثر "1" حتى زرتم المقابر "2" كلا سوف تعلمون "3" ثم كلا سوف تعلمون "4" كلا لو تعلمون علم اليقين "5" لترون الجحيم "6" ثم لترونها عين اليقين "7" ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "8"}
(سورة التكاثر)

والمراد: لو أنكم تأخذون عني العلم اليقيني فيما أخبركم به عن النار وعذابها لكنتم كمن رآها، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها، وهذا ما نسميه علم اليقين، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها. وهذا هو عين اليقين أي: الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرون على الصراط.
وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد، وتكتب له النجاة؛ لذلك قال تعالى بعدها:

{ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "8"}
(سورة التكاثر)

أما الكافر والعياذ بالله فله مع النار مرحلة ثالثة هي حق اليقين، يوم يدخلها ويباشر حرها، كما قال تعالى:

{وأما إن كان من المكذبين الضالين "92" فنزل من حميم "93" وتصلية جحيم "94" إن هذا لهو حق اليقين "95" فسبح باسم ربك العظيم "96"}
(سورة الواقعة)

إذن: عندنا علم اليقين، وهو الصورة العلمية للنار، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذرنا منها، ونحن في بحبوحة الدنيا وسعتها. وعين اليقين: في الآخرة عندما نمر على الصراط، ونرى النار رؤيا العين. ثم حق اليقين: وهذه للكفار حين يلقون فيها ويباشرونها فعلاً.
وقد ضربنا لذلك مثلاً: لو قلت لك: توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب، وأنها تقع على سبع جزر، ومن صفاتها كذا وكذا فأعطيك عنها صورة علمية صادقة، فإن صدقتني فهذا علم يقين. فإن مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رأى العين فهذا عين اليقين، فإن نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حق اليقين.
إذن: فقوله تعالى:

{وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً "100"}
(سورة الكهف)

ليس كعرضها على المؤمنين، بل هو عرض يتحقق فيه حق اليقين بدخولها ومباشرتها.




(الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً"101")
أي: على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية، ليس هذا وفقط، بل:

{وكانوا لا يستطيعون سمعاً "101"}
(سورة الكهف)

والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع، سمع العبرة والعظة، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع، ويسمعون بها، لكنه سماع لا فائدة منه؛ لأنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع الموعظة ويسدون دونها آذانهم، فهم في الخير أذن من طين، وأذن من عجين كما نقول.
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم:

{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق "83"}
(سورة المائدة)

إذن: فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سمع لهم، كما نقول نحن في لغتنا العامية: (أنت مطنش عني)، يعني لا تريد أن تسمع، ومن أقوال أهل الفكاهة: قال الرجل لصاحبه: فيك من يكتم السر؟ قال: نعم، قال: أعطني مائة جنيه، قال: كأني لم أسمع. ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم:

{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون "26"}
(سورة فصلت)

يعني: شوشوا عليه، ولا تعطوا الناس فرصة لسماعه، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيداً أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيراً يملك جوانب نفسه، ولابد أنه سيعرف أنه معجز، وأنه غير قول البشر، وحتماً سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، وأن محمداً رسول الله؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذراً:

{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه .. "26"}
(سورة فصلت)

وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى:

{ويل لكل أفاك أثيم "7" يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم "8"}
(سورة الجاثية)

وقد يتعدى الأمر مجرد السماع إلى منع الكلام كما جاء في قوله تعالى:

{ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم .. "9"}
(سورة إبراهيم)

فليس الأمر منع الاستماع، بل أيضاً منع الكلام، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتؤثر فيهم، أي منعوهم الكلام كما يقال: اسكت، أو أغلق فمك.



(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلاً"102")
قوله تعالى:

{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء .."102"}
(سورة الكهف)

يعني: أعموا عن الحق فظنوا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ وسبق أن تحدثنا عن كلمة (عبادي) وقلنا: إنهم المؤمنون بي المحبون لي، الذين اختاروا مرادات الله على اختيارات نفوسهم، وفرقنا بين عبيد وعباد.
والكلام هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد الله المقربين إليه المحبين له أولياء من دون الله، كما قال تعالى:

{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون .."172"}
(سورة النساء)

فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي؟ يقول تعالى:

{وقالت النصارى المسيح ابن الله .."30"}
(سورة التوبة)

ومنهم من قال: الملائكة بنات الله، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله وهم لا يستنكفون أن يكونوا عباداً لله، ويرون شرفهم وعزتهم في عبوديتهم له سبحانه، فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني، ويا ليتكم جعلتم ذلك في أعدائي، فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء؛ لذلك كان جزاءهم أن نعد لهم جهنم:

{إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلاً "102"}
(سورة الكهف)

والنزل: ما يعد لإكرام الضيف كالفنادق مثلاً، فهذا من التهكم بهم والسخرية منهم.




(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "103")
(قل) أي: يا محمد

{هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "102"}
(سورة الكهف)

الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة (أعمالاً) أي: خسارتهم بسبب أعمالهم.



(الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "104")
وقد ضل سعي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، وينادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صنعاً وقدموا خيراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى:

{ضل سعيهم .. "104"}
(سورة الكهف)

أي: بطل وذهب وكأنه لا شيء، مثل السراب كما صورهم الحق سبحانه في قوله:

{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. "39"}
(سورة النور)

وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأجر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيب لهم في جزاء الآخرة. وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى:

{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب "20"}
(سورة الشورى)

ومع ذلك يبقى للكافر حقه، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يظلمه أو يعتدي عليه، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت أن محدثاً حدث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت، أو يموت هو حتى أسمعه منه، فسألت عنه فقيل: إنه ذهب إلى الشام، قال: فاشتريت ناقة ورحلتها، وسرت شهراً إلى أن وصلت إلى الشام، فسألت عنه فقيل: إنه عبد الله بن أنيس، فلما ذهبت قال له خادمه: إن جابر بن عبد الله بالباب، قال جابر: فخرج ابن أنيس وقد وطئ ثيابه من سرعته. قال عبد الله: واعتنقا.

<قال جابر: حدثت أنك حدثت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينادي يوم القيامة: يا ملائكتي، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة">

فانظر إلى دقة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حق الكافر، فتقتص له قبل أن يدخل النار، حتى ولو كان ظالمه مؤمناً. وفي قوله تعالى:

{ضل سعيهم في الحياة الدنيا .. "104"}
(سورة الكهف)

جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عدة استعمالات يحددها السياق الذي وردت فيه. فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:

{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "108"}
(سورة البقرة)

ويطلق الضلال، ويراد به المعصية حتى من المؤمن، كما جاء في قوله تعالى:

{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً "36"}
(سورة الأحزاب)

ويطلق الضلال، ويراد به أن يغيب في الأرض، كما في قوله تعالى:

{أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديدٍ .. "10"}
(سورة السجدة)

يعني: غبنا فيها واختفينا. ويطلق الضلال ويراد به النسيان، كما في قوله تعالى:

{أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .. "282"}
(سورة البقرة)

ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد. كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه، فلما كلمه فرعون قال:

{فعلتها إذاً وأنا من الضالين "20"}
(سورة الشعراء)

أي: قتلته حال غفلة ودون قصد، ومن يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن الرجل جاء مع الوكزة لا بها. ويحدث كثيراً أن واحداً تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفت حادثة السيارة.
ويأتي الضلال بمعنى: ألا تعرف تفصيل الشيء، كما في قوله تعالى:

{ووجدك ضالاً فهدى "7"}
(سورة الضحى)

أي: لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر.




(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105")
{كفروا بآيات ربهم .. "105"}
(سورة الكهف)

والآيات تطلق ثلاثة إطلاقات، وقد كفروا بها جميعاً وكذبوا، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها. إذن: كلمة:

{كفروا بآيات ربهم .. "105"}
(سورة الكهف)

هنا عامة في كل هذه الأنواع. (ولقائه) أي: وكفروا أيضاً بلقاء الله يوم القيامة، وكذبوا به، فمنهم من أنكره كلية فقال:

{أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون "82"}
(سورة المؤمنون)

ومنهم من اعترف ببعث على هواه، فقال:

{ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً "36"}
(سورة الكهف)

ومن من قال: إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً، إذن: إما ينكرون البعث، وإما يصورونه بصورة ليست هي الحقيقة. ثم يقول تعالى:

{فحبطت أعمالهم .. "105"}
(سورة الكهف)

أي: بطلت وذهب نفعها

{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)

وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية

{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)

وقالوا: كيف نوفق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان، كما في قوله تعالى:

{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين "47"}
(سورة الأنبياء)

وقوله تعالى:

{فهو في عيشة راضية "7" وأما من خفت موازينه "8" فأمه هاوية "9" وما أدراك ما هيه "10" نار حامية "11"}
(سورة القارعة)

ونقول: إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا: المراد بقوله تعالى:

{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)

جاءت على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزن لهم عندنا أي: لا اعتبار لهم، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول: فلان لا وزن له عندي. أي: لا قيمة له.
وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول:

{فلا نقيم لهم .. "105"}
(سورة الكهف)

ولم يقل: عليهم، إذن: الميزان موجود، ولكنه ليس في صالحهم، فالمعنى: لا نقيم لهم ميزاناً لهم، بل نقيم لهم ميزاناً عليهم.



(ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً "106")
(ذلك) أي: ما كان من إحباط أعمالهم، وعدم إقامتنا لهم وزناً ليس تجنباً منا عليهم أو ظلماً لهم، بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله

{بما كفروا .. "106"}
(سورة الكهف)

أي: بسبب كفرهم.

{واتخذا آياتي ورسلي هزواً "106"}
(سورة الكهف)

فقد استهزءوا بآيات الله، وكلما سمعوا آية قالوا: أساطير الأولين:

{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين "15"}
(سورة القلم)

وكذلك لم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله:

{يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون "6"}
(سورة الحجر)

فقولهم

{نزل عليه الذكر .. "6"}
(سورة الحجر)

أي: القرآن وهم لا يؤمنون به سخرية واستهزاءً. وفي سورة "المنافقون" يقول القرآن عنهم:

{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا .. "7"}
(سورة المنافقون)

فقولهم:

{رسول الله .. "7"}
(سورة المنافقون)

ليس إيماناً به، ولكن إما غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه، وإما سخرية واستهزاءً كما لو كنت في مجلس، ورأيت أحدهم يدعي العلم ويتظاهر به فتقول: اسألوا هذا العالم.
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله:

{وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون "51"}
(سورة القلم)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
داليا العباسي
Admin
Admin
داليا العباسي


عدد المساهمات : 755
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العمر : 24

تفسير سورة الكهف Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الكهف   تفسير سورة الكهف I_icon_minitimeالسبت يونيو 18, 2011 11:42 pm


(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً "107")
قوله:

{إن الذين آمنوا .. "107"}
(سورة الكهف)

سبق أن قلنا: إن الإيمان هو تصحيح الينبوع الوجداني العقدي لتصدر الأفعال مناسبة لإيمانك بمن شرع، ومن هنا كان الإيمان أولاً وشرطاً لقبول العمل، وإلا فهناك من يعمل الخير لا من منطلق إيماني بل لاعتبارات أخرى، والنية شرط لازم في قبول العمل.
لذلك يعاقب الله تعالى من يعمل لغير الله، يعاقبه بأن ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه، بدل أن يعترف له بالجميل. ومن هنا قالوا: (اتق شر من أحسنت إليه)؛ وهذا قول صحيح لأنك حين تحسن إلى شخص تدك كبرياءه، وتكون يدك العليا عليه، فإذا ما أخذ حظاً من الحياة وأصبح ذا مكانة بين الناس فإن كان غير سوي النفس فإنه لا يحب من تفضل عليه في يوم من الأيام ودك كبرياءه؛ لذلك تراه يكره وجوده، ولا يحب أن يراه وربما دبر لك المكائد لتختفي من طريقه، وتخلي له الساحة؛ لأنك الوحيد الذي يحرجه حضورك.
لذلك، من عمل عملاً لغير الله أسلمه الله لمن عمل له، فليأخذ منه الجزاء، وإذا بالجزاء يأتي على خلاف ما تنتظر، فقد فعلت له ليكرمك فإذا به يهينك، فعلت له ليحترمك فإذا به يحقرك، فعلت له ليواليك فإذا به عدو لك؛ لذلك يقولون: العمل لله عاجل الجزاء، أما العمل لغير الله فغير مضمون العواقب، فقد يوفي لك وقد لا يوفي.
ثم أردف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح لابد له أن ينطلق من الإيمان ويصدر عنه، فقال تعالى:

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. "107"}
(سورة الكهف)

{وعملوا الصالحات .. "107"}
(سورة الكهف)

يعني: عمل الشيء الصالح، فإن كان الشيء صالحاً بنفسه فليتركه على صلاحه لا يفسده، أو يزيده صلاحاً، كبئر الماء الذي يشرب منه الناس، فإما أن تتركه على حال صلاحه لا تلقي فيه ما يسده أو يفسده فتخرج الصالح عن صلاحه، وإما أن تزيده صلاحاً فتضيف إليه ما يحسن من أدائه ويزيد من كفاءته كأن تبني حوله سوراً يحميه أو غطاءً يحفظه، أو آلة رفع تيسر على الناس استعماله.
والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلاح غيره أكثر من حصيلته من عمله هو؛ لأنه فرد واحد، ويستفيد بصلاح المجتمع كله، ومن هنا لا ينبغي أن تستثقل أوامر الشارع تكليفاته؛ لأنه يأخذ منك ليعطيك وليؤمن حياتك وقت الحاجة والعوز، وحينما يتوفر لك هذا التكافل الاجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليسر مطمئنة حال العسر.
وساعة أن يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه، فإنه يطمئنك على أولادك من بعدك، فلا تحزن إن أصابك مكروه؛ لأنك في مجتمع متعاون، سيكفل أولادك، بل قد يكون اليتيم في ظل الإسلام وتعاليمه أسعد حظاً من حياته في رعاية أبيه؛ لأنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعاً آباء له، وربما كان أبوه مشغولاً عنه في حياته لا يفيده بشيء، بل ويصد عنه الخير حيث يقول الناس: أبوه موجود وهو يتكفل به.
لذلك يقول احمد شوقي:

ليس اليتيم من انتهى أبواه إن اليتيم هو الذي تلقى له من هم الحياة وخلفاه ذليلا أما تخلت أو أباً مشغولا
وقوله تعالى:

{كانت لهم جنات الفردوس نزلاً "107"}
(سورة الكهف)

الفردوس: هو أعلى الجنة، والنزل: ما يعده الإنسان لإكرام ضيفه من الإقامة ومقومات الحياة وترفها، والإنسان حينما يعد النزل لضيفه يعده على حسب قدراته وإمكانياته وعلمه بالأشياء، فما بالك إن كان المعد للنزل هو الله تبارك وتعالى؟



(خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً"108")
وخلود النعيم في الآخرة يميزه عن نعيم الدنيا مهما سما، كما أن نعيم الدنيا يأتي على قدر تصورنا في النعيم وعلى حسب قدراتنا، وحتى إن بلغنا القمة في التنعم في الدنيا فإننا على خوف دائم من زواله، فإما أن يتركك النعيم، وإما أن تتركه، وأما في الجنة فالنعمة خالدة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وأنت مخلد فيها فلن تتركك النعمة ولن تتركها.
لذلك يقول تعالى بعدها:

{لا يبغون عنها حولاً "108"}
(سورة الكهف)

أي: لا يطلبون تحولهم عنها إلى غيرها، لأنه لا يتصور في النعيم أعلى من ذلك.
ومعلوم أن الإنسان لديه طموحات ترفيهية، فكلما نال خيراً تطلع إلى أعلى منه، وكلما حاز متعة ابتغى أكثر منها، هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر مختلف، وإلا فكيف يطلب نعيماً أعلى من الجنة الذي قال الله عنه:

{كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً .. "25"}
(سورة البقرة)

أي: كلما رزقهم الله ثمرة أتتهم أخرى فقالوا: لقد رزقنا مثلهم من قبل، وظنوها كسابقتها، لكنها ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف، وإن كانت نفس الثمرة، ذلك لأن قدرة الأسباب محدودة، أما قدرة المسبب فليست محدودة.
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج لك الفاكهة الواحدة على ألف لون وألف طعم؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى في قدرتها؛ لذلك يقول تعالى:

{وأتوا به متشابهاً .. "25"}
(سورة البقرة)

فالثمر واحد متشابه، أما الطعم فمختلف.
والإنسان منا ليشق طريقه في الحياة يظل يتعلم، ليأخذ شهادة مثلاً أو يتعلم مهنة، ويظل في تعب ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من عمره أملاً في أن يعيش باقي حياته المظنونة مرتاحاً هانئاً، وهب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة، فكم سيكون الباقي منها؟
أما الراحة الأبدية في الآخرة فهي زمن لا نهاية له، ونعيم خالد لا ينتهي، ففي أي شيء يطمع الإنسان بعد هذا كله؟ وإلى أي شيء يطمح؟



(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً "109")
لأن قدرته تعالى لا حدود لها، ومادامت قدرته لا حدود لها فالمقدورات أيضاً لا حدود لها؛ لذلك لو كان البحر مداداً أي: حبراً يكتب به كلمات الله التي هي (كن) التي تبرز المقدورات ما كان كافياً لكلمات الله

{ولو جئنا بمثله مدداً "109"}
(سورة الكهف)

ونحن نقول مثلاً عن السلعة الجيدة: لا يستطيع المصنع أن يخرج أحسن من هذه، أما صنعة الله فلا تقف عند حد؛ لأن المصنع يعالج الأشياء، أما الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيصنعها بكلمة كن؛ لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصل إليه العلم في خدمة البشر أن تضغط على زر معين، فيخرج لك ما تريد من طعام أو شراب.
وهذه الأشياء بلا شك معدة ومجهزة مسبقاً، فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل نوع، لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن: فنعيم الدنيا له حدود ينتهي عندها. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:

{حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون "24"}
(سورة يونس)

وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا وبلغتم أقصى ما يمكن من متعها وزينتها، فتعالوا إلى ما أعددته أنا لكم، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله، وتعالوا عيشوا بالله، كنتم في عالم الأسباب فتعالوا إلى المسبب.
وإن كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الآية عن المداد الذي تكتب به كلمات الله، فقد تكلم عن الأقلام التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة، فقال تعالى:

{ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .. "27"}
(سورة لقمان)

ونقف هنا عند دقة البيان القرآني، فلو تصورنا ما في الأرض من شجر أقلام، مع ما يتميز به الشجر من تجدد مستمر، وتكرر دائم يجعل من الأشجار ثروة لا حصر لها ولا تنتهي، وتصورنا ماء البحر مداداً يكتب به إلا أن ماء البحر منذ خلقه الله تعالى محدود ثابت لا يزيد ولا ينقص.
لذلك لما كان الشجر يتجدد ويتكرر، والبحر ماؤه ثابت لا يزيد. قال سبحانه:

{والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ.. "27"}
(سورة لقمان)

ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر، والمراد سبعة أمثاله، واختار هذا العدد بالذات؛ لأنه منتهى العدد عند العرب.
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة، ومنها نعلم أن كمية الماء في الأرض ثابتة لا تزيد؛ لأن ما يتم استهلاكه من الماء يتبخر ويعود من جديد فالإنسان مثلاً لو شرب طيلة عمره مائة طن من الماء، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عملية الإخراج تجدها نفس الكمية التي شربها، وقد تبخرت وأخذت دورتها من جديد؛ لذلك يقولون: رب شربة ماء شربها من آدم الملايين.






(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "110")
(قل) أي: يا محمد، وهذا كلام جديد

{قل إنما أنا بشر مثلكم .. "110"}
(سورة الكهف)

يعني: خذوني أسوة، فأنا لست ملكاً إنما أنا بشر مثلكم، وحملت نفسي على المنهج الذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيء وأنا عنه بنجوى. بل بالعكس كان صلى الله عليه وسلم أقل الناس حظاً من متع الحياة وزينتها.
فكان في المؤمنين به الأغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدون أغلى الثياب في حين كان صلى الله عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أن يوقد في بيته نار لطعام، وكان يرتدي المرقع من الثياب، كما أن أولاده لا يرثونه، كما يرث باقي الناس، ولا تحل لهم الزكاة كغيرهم، فحرموا من حق تمتع به الآخرون.
لذلك كان صلى الله عليه وسلم أدنى الأسوات أي: أقل الموجودين في متع الحياة وزخرفها، وهذا يلفتنا إلى أن الرسالة لم تجر لمحمد نفعاً دنيوياً، ولم تميزه عن غيره في زهرة الدنيا الفانية، إنما ميزته في القيم والفضائل.

<ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول: "يرد علي ـ يعني من الأعلى ـ فأقول: أنا لست مثلكم، ويؤخذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم">

والآية هنا لا تميزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلا في أنه:

{يوحى إلي .. "110"}
(سورة الكهف)

فما زاد محمد عن البشر إلا أنه يوحى إليه. ثم يقول تعالى:

{أنما إلهكم إله واحد .. "110"}
(سورة الكهف)

أنما: أداة قصر

{إلهكم إله واحد .. "110"}
(سورة الكهف)

أي: لا إله غيره، وهذه قمة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إله غيره، ومن أعظم نعم الله على الإنسان أن يكون له إله واحد، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً ليوضح لنا هذه المسألة فقال تعالى:

{ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلاً .. "29"}
(سورة الزمر)

فلا يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لأنهم متشاكسون مختلفون يحار فيما بينهم، إن أرضى هذا سخط ذاك. هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن: فمما يحمد الله عليه أنه إله واحد.

{فمن كان يرجو لقاء ربه .. "110"}
(سورة الكهف)

الناس يعملون الخير لغايات رسمها الله لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها، لكن هذه الآية توضح لنا غاية أسمى من الجنة ونعيمها، هي لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، فقوله تعالى:

{يرجو لقاء ربه .. "110"}
(سورة الكهف)

تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى. فمن أراد لقاء ربه لا مجرد جزائه في الآخرة:

{فليعمل عملاً صالحاً .. "110"}
(سورة الكهف)

فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله؛ لأن العمل الصالح دليل على أنك احترمت أمر الآخر بالعمل، ووثقت من حكمته ومن حبه لك فارتاحت نفسك في ظل طاعته، فإذا بك إذا أويت إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلا خيراً تسعد به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجس شراً من أحد، ولا تخاف عاقبة أمر لا تحمد عقباه، فمن الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفقك لها؟ ثم:

{ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "110"}
(سورة الكهف)

وسبق أن قلنا: إن الجنة أحد، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً، ولو كان هذا الشيء هو الجنة، فعليك أن تسمو بغاياتك، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعم بها عليك.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالرجل الذي أعد وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب، ودعا إليها أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إلا وأحداً لم يهتم بالطعام والشراب، وسأل عن صاحب الوليمة ليسلم عليه ويأنس به.
وما أصدق ما قالته رابعة العدوية:

كلهم يعبدون من خوف أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا ليس لي بالجنان والنار حظ نارٍ ويرون النجاة حظاً جزيلاً بقصور ويشربوا سلسبيلا أنا لا ابتغي بحبي بديلا
وهذا يشرح لنا الحديث القدسي: "لو لم أخلق جنة وناراً، أما كنت أهلاً لأن أعبد؟".
فلا ينبغي للعبد أن يكون نفعياً حتى في العبادة، والحق سبحانه وتعالى أهل بذاته أن يعبد، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فاللهم ارزقنا هذه المنزلة، واجعلنا برحمتك من أهلها

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سورة الكهف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة هود
» تفسير سورة النساء2
» تفسير سورة المائدة 9
» تفسير سورة الانعام5
» تفسير سورة الاعراف8

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مدرسة الدوحة الأساسية المقدسية :: المنتدى الاسلامي :: القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة-
انتقل الى: